القانون الغربي والدين : التوترات والإلتباسات بقلم نبيل عبد الفتاح
شكلت الأديان تاريخيا مع الأعراف والتقاليد أحد أبرز مكونات الثقافات القانونية فى مختلف المجتمعات، خاصة فى تكوين نظام الأسرة، ومن ثم بعض معالم الهندسات الاجتماعية، ثم مع القانون الرومانى بدأت تغيرات فى الفلسفة القانونية، التى أثرت على مقاربة القانون والتنظيم الاجتماعى. مع تطور الحضارة المسيحية – اليهودية، ثم التحول إلى الرأسمالية الأوروبية، وحركة القوميات، وتأسيس الدولة الأمة، اتخذت النظم القانونية الحديثة مسارات مختلفة فى الفلسفة القانونية-اللاتينية، والأنجلو ساكسونية والجرمانية -، وتم التمايز بين القانون الحديث وفلسفته، وما بين الأديان، على نحو أدى إلى تطور النظم القانونية، والسياسية الليبرالية، ومن ثم التمايز بين الوضعى، وما بين الميتاوضعى، وبات القانون إنتاجا تشريعيا وضعيا بامتياز للسلطات التشريعية الأورو-أمريكية، وتعبيراً عن الصراعات السياسية حول المصالح الاقتصادية والاجتماعية المتعارضة، وتوازنات القوة فى الواقع الاجتماعى والسياسى. هذا التطور الكبير فى الفلسفات القانونية، وتأثرها بالحداثة الغربية، والثورات التكنولوجية، على نحو ساهم فى تعقيد، التنظيمات القانونية، ووظائفها الاجتماعية والسياسية، وفى الفن القانونى -التكنيك والصياغة – وفى التفسير والتأويل للنصوص القانونية من قبل الجماعات القانونية ودراسات علماء الاجتماع خاصة علم الاجتماع القانونى، ولاسيما الجماعات القضائية. ظل القانون الدينى، مقصورا على المؤسسات الدينية المسيحية – الكاثوليكية، والبروتستانتية والأرثوذكسية، واليهودية – فى مجال نظام الأسرة، واللاهوت، والطقوس الدينية، لكن ظل فى النظم القانونية الوضعية بالغ الهامشية، وحسب النظام الدستورى، والقانونى فى الثقافات القانونية الأورو- أمريكية. هذا التطور شكل أهم مصادر النظم القانونية الحديثة فى المستعمرات الفرنسية، والإيطالية، والبريطانية، سواء تحت الحكم الكولونيالى، وما بعد الاستقلال، لكن الدين -الإسلامى والمسيحى واليهودى- فى العالم العربى، وتأسيس الدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، ظل أحد المصادر المهمة فى نظام الأحوال الشخصية، ومصدرًا من مصادر الاستلهام، والاستعارات القانونية من بعض المبادئ العامة للنظام القانونى للشريعة الإسلامية، وظل أحد مصادر التوترات والنزاعات السياسية بالدين وعليه، فى الحياة السياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وإلى اللحظة التاريخية الراهنة مصريًا.
كانت علاقة الدين بالقانون جزءا من الدرس التاريخى للقانون، ولم يكن هناك تشكلُ لما بات يطلق عليه القانون الدينى فى التقاليد الأكاديمية الأنجلو ساكسونية، والأمريكية إلا أن هذه المقاربات الأكاديمية أخذت فى التبلور والتشكل كنتاج للتغيرات داخل المجتمعات الغربية للأسباب التالية:
– موجات الهجرات الدولية من مجتمعات جنوب العالم إلى المجتمعات الأوروبية، وأمريكا الشمالية، سعيا وراء الرزق، أو هروبا من التسلطية. ارتباط غالبُ موجات الهجرة الشرعية، والقسرية، وأجيالها بأديانهم ومعتقداتهم الدينية رغم تجنس غالبهم بجنسيات الدول التى هاجروا إليها، وظهور مشكلات عدم الاندماج الاجتماعى داخل المجتمعات الغربية العلمانية، وتعبيرا عن أزمات الهوية للأجيال الجديدة من مواطنى هذه الدول من الأصول العربية والإسلامية.
– التمدد السلفى، والإخوانى داخل غالبُ المجتمعات الأورو- أمريكية الشمالية، خاصة سكان الضواحى فى فرنسا، وبلجيكا..إلخ، واستمرارية بعض التقاليد الاجتماعية المضادة لحقوق المرأة المحمولة معهم وإزاء غير المسلمين، وما يترتب عليه من مشكلات اجتماعية.
– تمسك الأقليات الإسلامية والعربية ببعض التقاليد الخاصة بنظام الزى، والعلامات الدينية فى المجال العام كالجلباب والحجاب والنقاب، وملابس البحر لبعض النساء المسلمات والعربيات، أو فى الوظائف العامة، والمدرسة الجمهورية فى فرنسا على سبيل المثال.
– بروز ظواهر العنف الدينى والإرهابى مع أحداث 11 سبتمبر 2001، وغيرها من عمليات الطعن، والدهس، وقتل بعض رجال الدين والمدرسين فى فرنسا لأسباب دينية وسياسية محضة.
– تزايد الاتجاهات اليمينية المتطرفة، والشعبوية السياسية، وكراهية الأجانب فى بعض الأحزاب، والأوساط الاجتماعية الأوروبية، فى ظل بعض المشكلات الاقتصادية فى بعض البلدان الأوروبية كفرنسا. طرحت مشكلات الهجرة، وعدم الاندماج الاجتماعى لأسباب دينية وعقائدية، وثقافية عديد الأسئلة حول المدى الذى يمكن للقانون فى الدول الأوروبية أن يتوافق مع الاختلاف الدينى بين مواطنى الدولة من الأصول العربية والإسلامية، وغيرها؟!، وانعكاسات ذلك على التقاليد الراسخة فى الدساتير والقوانين الأوروبية فى مجال الحريات العامة والشخصية.
لا شك فى أن هذه المشكلات حول علاقة القانون الغربى العلمانى، فى النظم الليبرالية التمثيلية، تشكل واحدة من مشكلات ما أطلق عليه ما بعد العلمانية فى أوروبا، وأمريكا الشمالية، وستزداد تعقيدا، فى ظل التقلصات المصاحبة لمرحلة الإناسة الروبوتية، وتحديات الانتقال الصعبة مع الذكاء الاصطناعى، ومرحلة ما بعد الإنسان التى تلوح بعضُ من فى عالمنا المتحول، والمضطرب.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
***
عن جريدة ” الأهرام ” في 5 سبتمبر 2024 لباب ” مختارات سينما إيزيس ”