الموسيقى في عصر الإستهلاك المكثف بقلم نبيل عبد الفتاح
التغيرات الاجتماعية منذ عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى فى حالة سرعة فائقة فى عالمنا، خاصة مع الثورة الصناعية الثالثة، ثم الرقمنة، وانعكاساتهما على الحياة اليومية، والعمل، والتعليم، والاستهلاك المكثف والسريع للسلع والخدمات، وتشيؤ أنساق القيم الاجتماعية، وأيضا تسليع القيم السياسية من خلال الربط بينها، وبين دولة الرفاه فى المجتمعات الأكثر تطورا، حيث باتت رهينة ارتفاع الأجور والخدمات، خاصة الضمانات الاجتماعية. هذا المتغير فائق السرعة، وانعكاساته الاجتماعية والسياسية والثقافية، والفلسفية اثر على أنماط الحياة والاستهلاك للسلع الموسيقية والغنائية خاصة مع الانتقال إلى الأيديولوجيا الناعمة فى أوروبا، ثم إلى مرحلة نهاية الإيديولوجيا، والتحول إلى ما بعد الحداثة، أدى ذلك إلى تغيرات كبرى فى أنماط الاستهلاك للسلع الثقافية، ومن بينها الموسيقى، والأغانى، والمسرح والسينما فى الولايات المتحدة، وأوروبا. ثقافة الاستهلاك السريع امتدت إلى الثقافة، ولم تقتصر على الدول الأكثر تطورا فقط، وامتدت إلى عالمنا العربى، وأسهم فى ذلك عديد الأسباب ومنها أولا: ثورة عوائد النفط والهجرة إلى الخليج، والعراق، وليبيا، وفرض ذلك نمطا من الاستهلاك لم يكن معهودا من قبل فى مصر، ودول العسر الاقتصادى العربى فى المشرق.
ثانيا: ظاهرة ترييف المدن، والهجرة من الريف إلى المدينة، على نحو أثر على الذوق الموسيقى والجمالى المدينى التاريخى الذى تآكل، وبروز القابلية لتأثر الطبقة الوسطى المدينية بالجمل الموسيقية، والأغانى ذات المصادر الموسيقية المتعددة، فى الدلتا، والصعيد، والنوبة وموسيقى المناطق الحدودية, بالإضافة إلى تغيرات فى الاستهلاك الموسيقى والغناء للمصريين الذين هاجروا مؤقتا للنفط، بحثا عن الرزق.
ثالثا: ظهور بدايات الثورة الاتصالية الجديدة من خلال ثورة الكاسيت التى صاغت ثقافتها الخاصة فى الاتصال بين المواطنين فى الهجرة أو الريف، وعائلاتهم، وأسرهم وأصدقائهم او من الخليج الى مصر، والأهم توظيفه فى الموسيقى والغناء الشعبى، وغيرهما.
رابعا: تسليع السلوك الاجتماعى، وارتفاع معدلات الاستهلاك للسلع والخدمات، خاصة فى المدن المريفة، وتمدد هذا النمط السلوكى إلى مجال الموسيقى، والأغانى، فى سرعة، خاصة فى عقد التسعينيات، مع التغيرات الجيلية، وتجاوز الأجيال الجديدة لنمط الأغانى والموسيقى الشرقية وقوالبها التى سادت مع الأجيال الأكبر سنا. كانت أبرز التغيرات فى الذوق الغنائى، والموسيقى منذ الثمانينيات والتسعينيات، تتمثل فى فرض هذه الأجيال أصواتا، وموسيقى، وقوالب وأشكالا جديدة، تمثلت فى انتقال بعض الميراث الغنائى والموسيقى من الهامش إلى قلب الذوق العام،
الفنان النوبي الكبير حمزة علاء الدين
وتمثل ذلك فيما يلى: الموسيقى والأغانى والأصوات النوبية، التى تميزت بأنها ثقافة موسيقية، تمركزت تاريخيا حول النوبة، وبعض أبنائها فى القاهرة والإسكندرية أساسا، بعد الهجرة مع سد أسوان ثم السد العالى وبعده، وكانت تذاع فى إذاعة صوت السودان المصرية، ثم مع الثمانينيات والتسعينيات باتت أحد أهم روافد الموسيقى المصرية الجديدة. انتقل حزام السلم الخماسى الموسيقى من النوبة والسودان وحوض النيل إلى مصر كلها. ومرجع ذلك كسر القوالب والأشكال الموسيقية المسيطرة والتى لم تعد تواكب التغير الاجتماعى فى القيم والاستهلاك والسرعة فى الحياة اليومية، والتغير الجيلى. من هنا برز أحمد منيب، وحمزة علاء الدين، -أدخل آلة العود إلى الموسيقى النوبية وعمل أستاذا للموسيقى العرقية فى أمريكا واليابان-، وعلى كوبان ـ استخدم آلات السمسمية، والأبوا، والأكورديون-، وبحر أبو جريشة النوبى السكندرى، ومحمد حمام وأغانيه الوطنية المميزة وغيرها، ومحمد منير الذى شكل حالة جسدت الموسيقى، والذوق النوبى التراثى والمتطور ليغدو من أهم التغيرات فى الغناء المصرى، خاصة مع إدخال بعض الآلات الغربية، ومنها بعض إيقاعات موسيقى الجاز. التغير الثانى تمثل فى ظهور المطرب عمر فتحى فى الثمانينيات، ومات شابا، وبعده ظهر علاء عبدالخالق، وعلى حميدة –وزع شريطه الوحيد 6 ملايين نسخة-، وسيمون، وحمدى باتشان، وهشام عباس، ومصطفى قمر، وحنان، واميرة، ومنى عبدالغنى، وقبلهم إيهاب توفيق وآخرون، كان أبرز ملحنى هذه الأصوات الجديدة الملحن والمطرب حميد الشاعرى، الذى قدم الموسيقى السائدة فى المناطق الحدودية. مع تغير فى كلمات الأغانى، التى لم تعد تقدم الحب، وفق المعانى التى كانت سائدة فى الأجيال السابقة، من الشوق، والبعاد، والانفصال والحنين، واللوع، والكذب، والتمثيل، وكل المعانى التى ارتبطت بالعلاقات شبه الإقطاعية فى فهم معانى الحب قبل 1952، إلى الحب ومعانيه لدى الطبقة الوسطى –الوسطى، والوسطى الصغيرة المدينية قاعدة نظام يوليو حتى حرب أكتوبر 1973، إلى معان جديدة تعتمد على الحرية، وانكسار نسبى للذكورية فى الحب، وظهور الصوت الأنثوى الجديد فى الأغنية، من حيث نظرة النساء والفتيات من الأجيال الجديدة لمفهوم الحب ونهاية الحب الأول والأخير الذى فرضته أغانى الماضى، والسينما، وطابعه الرومانتيكى، باتت الأغنية واللحن السريع جزءا من علاقات التغير الاجتماعى والجيلى فى عقد التسعينيات ومابعد، وعالم التفاصيل الصغيرة التى تحيط بالأفراد. بعض مطربى هذه المرحلة مستمر مثل عمرو دياب، لقدرته على التكيف نسبيا مع التغيرات، وبعضهم راح ضحية عدم القدرة على مواكبة التحولات الجيلية. ويعود ذلك إلى مشكلة الثقافة والوعى الاجتماعى لدى غالب جماعة المطربين والمطربات والملحنين، وتكرارهم لأعمالهم!. باتت التغيرات الجيلية مؤثرة جدا على الموسيقى والألحان مثل الأكل السريع Fast Food، وأثرت الثورة الرقمية على استهلاكها، وعلى حركية الجملة الموسيقية فى عالم يتغير على نحو فائق السرعة والأخطر دخول الذكاء الصناعى فى الموسيقى والسينما، وسيغزو كل شىء، ويغير عالمنا كله.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري تنويري ومستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجة
–
كلام صورة المقال: لوحة للفنان المصري ماهر جرجس
**
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ 17 أغسطس 2023 لباب” مختارات سينما إيزيس “