بشير الديك لسان المهمشين ومرآة المجتمع المصري في السينما بقلم كمال القاضي
السيناريست بشير الديك، آخر الراحلين من كُتاب السيناريو الكبار المهمومين بالقضايا الاجتماعية والإنسانية، وأحد الطارحين بجرأة لأزمات المُهمشين من الكادحين والمُتحدثين بلسانهم، فهو أعرف الناس بهموم ومُشكلات أولئك المأزومين عبر كل المراحل السياسية، الذين لم يُصبهم تغيير يُذكر اقتصادياً كان أو ثقافياً، رغم كثرة الكلام وغزارة التصريحات عن تحسين أوضاع الفقراء، والنهضة غير المسبوقة التي صاحبت الانفتاح الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي، حسب المزاعم التي ساقها أصحابها من صُناع القرار آنذاك!
قدم الكاتب والسيناريست بشير الديك، عشرات الأعمال التي ترجمت هموم العامة في محاولات صادقة للإنصاف والانحياز العفوي لمن هم ملح الأرض، حيث اهتم على وجه الخصوص بطبقة العُمال والحرفيين وأصحاب المواهب المُعطلة بفعل الظروف الصعبة التي حالت دون تحققهم واغتالت أحلامهم في مهدها، مع الإشارات المُتكررة إلى تمييز أصحاب النفوذ والواصلين من رجال الأعمال وسماسرة العصر الجديد في زمن الانفتاح المنكوب، الذي أتى على الطبقة المتوسطة فلم يُبق منها أحد، اللهم غير الملامح القديمة التي تشهد بالبؤس وقصر ذات اليد والانزواء بعيداً عن بؤر الصراع المحموم – صراع الديوك. وقد وجد بشير الديك ضالته مع المخرج عاطف الطيب، الذي كان يشبهه فكرياً وثقافياً، فارتبط به وشكّل معه ثنائيا ظل مستمراً لفترة طويلة، وأسفر التعاون بينهما عن إنجاز عدة أفلام اختلفت في جوهرها ومضمونها عن السائد والتقليدي، حيث جاءت ملامسة بشكل حقيقي لأوجاع الطبقة المُستهدفة المغلوب على أمرها.
وربما كان فيلم «ضربة معلم» بطولة كمال الشناوي ونور الشريف واحداً منها، فمن خلاله طرح الطيب والديك نموذجاً لنفوذ الكبار من الذين يتصورون أنفسهم فوق القانون، ويحتمون بأموالهم من سيف العدالة، فالشاب شريف منير، الذي قتل صديقة لشكه في وجود علاقة آثمة بينه وبين أمه، كان رمزاً للجريمة، بينما كانت الأم والصديق عنواناً للخيانة والتحلل الأخلاقي، بيد أن المحور الأساسي للفكرة تمثل في طغيان الأب المليونير كمال الشناوي، الراعي الرسمي للفساد والمُحرض على الجريمة لأسباب تخص علاقته المُرتبكة بمطلقته الخائنة.
وفي الفيلم المذكور لعب نور الشريف دور ضابط المباحث الشريف، الذي يُحقق في الجريمة بنزاهة ويرفض المُساومة ويرسم خُطة دقيقة ومُحكمة للإيقاع بالجاني بعد أن يخدع الأب ويوهمه بإمكانية التعتيم على الأدلة التي تُدين ابنه مقابل مبلغ كبير من المال. نموذج آخر جمع أيضاً بين عاطف الطيب وبشير الديك ونور الشريف هو فيلم «سواق الأتوبيس»، وهذا الفيلم تحديداً مثل صرخة قوية في وجه اللصوص، كبارهم وصغارهم، إذ اعتمد السيناريو على عنصر أساسي وهو القيمة المُشار بها إلى ورشة الخشب والنجارة التي يملكها الأب الهرم المُسن عماد حمدي، والتي تعرضت إلى النهب والسرقة من محترفي النصب والاحتيال، وهم أقرب الأقربين إلى البطل، بما يعني أن الفساد ربما يكون داخلياً في كثير من الأحيان إذا ما وجدت دلالات المؤامرة على الموروث.
وهناك ربط مُتعمد بين الورشة وأجواء الانفتاح الطاغية في المكان المركزي للأحداث المتلاحقة، وعلاقتها بالنشاط التجاري المشبوه في المنطقة الحرة في مدينة بور سعيد آنذاك إبان فترة السبعينيات، بإشارات كثيرة ومتعددة عن حجم الأخطار القائمة والتغير الطارئ في الثقافة الاجتماعية للأسرة التي هي نواة المجتمع ككل. وفي سياق ما تم طرحة يساوي بشير الديك بين اللص النشال، الذي يُمارس نشاطه الانحرافي في الأتوبيس واللصوص الآخرين الذين يُمارسون أنشطتهم في المنطقة الحرة في المدينة التجارية العريقة التي صدّرت الأبطال وتصدرت المقاومة الشعبية أيام العدوان الثلاثي.. إنها المفارقة بكل مستوياتها يركز عليها الكاتب الراحل صاحب الرؤية ليبُين الفروق الجوهرية في المُتغير الاجتماعي والسياسي والثقافي، الذي طرأ على الحياة في مصر خلال الفترة ما بين 1973 و1978.
وبانتقال التجربة الإبداعية للكاتب بشير الديك من عاطف الطيب إلى محمد خان، حدث التحول النسبي، أو الطفيف في شكل الكتابة السينمائية، حسب الاختلاف النوعي لمفهوم الواقعية الجديدة، الذي لم يكن الديك مُنسجماً معه تماماً، باعتباره من المُنتمين لواقعية المخرج صلاح أبو سيف المباشرة، في طرحه لجُل القضايا الأساسية بعيداً عن تلك الرؤية الشاعرية التي اعتمدها خان في معظم أفلامه.
ورغم اختلاف الأسلوب والتوجه نوعاً ما، استطاع بشير الديك التكيف مع مدرسة محمد خان الجديدة فقدم تابلوهاته الإنسانية بانسيابية شديدة في أفلام مثل «الحريف» لعادل إمام و»طائر على الطريق» لأحمد زكي، ففي الأول قدم هموم لاعب الكرة «فارس» الشاب الموهوب الذي لم يجد لموهبته الكروية سبيلاً غير اللعب في الساحات الشعبية، مُتخذاً من المُراهنات وسيلة لكسب ما يحتاجه من نفقات اليوم، للمُستلزمات الضرورية ومُكتفياً بجمهور العوام من سكان الأحياء الفقيرة البسيطة، بعدما فاتته كل فرص التفوق في النوادي الرياضية الكُبرى، ليظل يُلاحق حُلمه كلاعب بلا توقف لتحقيق ذاته التي تاهت منه وسط الزحام وفي خضم الهموم والمُشكلات!
وفي فيلم «طائر على الطريق» يُعاود الثنائي محمد خان وبشير الديك البحث عن الأحلام المُجهضة، فسائق سيارة الأجرة يُصادف حُبه لأول مره مع سيدة متزوجة (فردوس عبد الحميد) زواجاً تعيساً ومُفتقدة هي الأخرى لأهم أحلامها «السعادة». وتبدأ المعاناة النفسية للشخصيتين في مشوار الحياة القاسي بغير إنجاز لأي شيء حقيقي غير الهزيمة التي تتوج مسيرتهما وتُحاصرهما بقانون العادات والتقاليد واستبداد الزوج الذي يرفض الطلاق. ويغلق بشير الديك القوس على المأساة الإنسانية، ويترك الحُكم للجمهور بفلسفة بسيطة في لغة الكتابة ورسم الشخصيات.

كمال القاضي كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في القاهرة.مصر
**