صلاح هاشم يكتب لجريدة القاهرة من مهرجان ” كان “75 عن السينما وسقراط والعودة الى المدينة
ماذا يستدعي المرء في ذهنه- هكذا فكرت- عند الحديث عن مهرجان كان السينمائي٫ وبخاصة عنما يكون هذا المرء٫ قدشارك من قبل في هذه الاحتفالية السينمائية الدولية٫ التي تقام في تلك المدينة الصغيرة ” كان ” على البحر-٫ وهي تتآمل في مياه المتوسط الكبير٫ وتلك الآفاق الرحيبة٫ التي تحملها الينا أفلام السينما العظيمة؟
فكرت أن امريء كهذا٫ لابد آن يقول لنا كيف يري السينما ٫ وماهي وظيفتها٫ هل هي مجرد آداة للتسلية٫ وقطع الوقت، وصناعة لفبركة بضائع للاستهلاك٫ مثل شطائر الهامبورجر والمحشي والكباب٫ نلتهمها بسرعة٫ ثم تمضي على شكل نفايات ولا تترك أثرا ٫ آم آنها كما يقول المخرج والسينمائي الفرنسي الكبير جان لوك جودار٫ صاحب آفلام ” ييرو المجنون ” و ” العار ” و ” على آخر نفس ” آداة للتأمل والتفكير٫ في واقع ومتناقضات مجتمعاتنا الانسانية٫ وآزمات وحروب عصرنا؟
في كتاب ” قاموس الفكر السينمائي ” الصادر عن دار نشر “بوف” في باريس٫الذي آشرف على طبعه الناقدان الفرنسيان الكبيران انطوان دو باك وفيليب شوفالييه٫ مع نخبة كبيرة من الباحثين والدارسين٫ ثمة تعريف للسينما٫ للفنان السينمائي والمفكر الفرنسي الكبير٫ يخلص فيه الى أن السينما٫هي آولا غذاء للعقل ٫٫والروح التواق٫ الى آن تكون أكثر من إشباع لحاجة طبيعية ضرورية٫ فصحيح أننا نحتاج ال الآكل والشرب٫ لكن كماقال ابن مريم٫ ليس بالخبز وحده يحيا الانسان٫ ومن الأفضل ٫بدلا من آن تطعم صاحب حاجة سمكا٫آن تعلمه كيف يصطاد السمك – والكلام لجودار – الذي يضيف
“٫هنا تعريفه للسينما الفن٫ حين ينبه الى أن السينما هي ..” فكر له شكل٫ وشكل يفكر
وانطلاقا من هذا المفهوم٫ تبدو لنا قيمة السينما الفن٫ من خلال مساواتها من خلال تعريف جودار بالعلوم٫ فهي السينما ليست أقل قدرا مثلا من الأدب٫ آو الموسيقى٫ ومن هنا إرتباطها ٫كفكر آولا بالفلسفة٫ والعلوم السياسية وعلم النفس٫ وعلم الجمال٫ والعلوم الاجتماعية٫ التي تتوسل جميعها الى معرفة “هوية” عصرنا المأسوي هذا٫ في زمن الناس العاديين٫ حيث تتراجع قيمة الإنسا ن الفرد٫ لتفسح الطريق٫ آمام بطولات جماعية٫ في مقاومة االظلم والعنصرية٫ والاستبداد والفاشية المنظمة والارهاب٫ وفي مواجهه دمار الحروب
والآن دعنا نسأل بعد أن حددنا ماذا نقصد وعما نتحدث٫ عندما نذكر كلمة ” سينما ” في محاولة لتقديم كشف حساب للمهرجان السينمائي الكبير ٫ لماذا سوف سوف تكون دورة مهرجان ” كان ” الخامس والسبعون المقبلة في رأينا ومن واقع متابعاتنا لمهرجان كان منذ آكثر من أربعين عاما دورة ٌُإستثنائية وتاريخية بٌامتياز.
أجل سوف تكون دورة ُإستثنائية وتاريخية للآسباب التالية :
” كان ” السينمائي” صندوق الدنيا “
آولا : أن مهرجان ” كان ” ليس مهرجانا٫ بل “عدة مهرجانات” سينمائية في آن٫ ويمكنك آن تتخيل عدد الآفلام الرهيب التي تعرض في ساحة ” كان ” المدينة كل سنة، حيث يعقد على هامش “التظاهرة الرسمية” التي تضم مسابقة السعفة الذهبية٫ وعادة ماتعرض أكثر من خمسين فيلما جديدا كل سنة، تتوزع على أقسام المهرجان ،مثل قسم ” المسابقة الرسمية” وقسم ” نظرة ما “وقسم ” كلاسيكيات كان ” وقسم ” سينماالبلاج ” ،وهذا القسم الأخير يعرض آفلامه للجمهور من آهل المدينة وبلا مقابل٫على شاشة كبيرة في الهواء الطلق ٫عدة مهرجانات سينمائية لاتقل قيمة أومقاما عن التظاهرة ” الرسمية ” الأم “٫وعادة ، وربما للتصغير من شآنها في مواجهة التظاهرة الرسمية، التي يشرف على إختيار آفلامها المندوب العام للمهرجان تيري فريمو٫ يطلق عليها إسم ” تظاهرة” ،من ضمنها تظاهرة ” إسبوع النقاد ” وتظاهرة “نصف شهر المخرجين” وغيرها من التظاهرات السينمائية٫ بحضور أشهر نجوم السينما في العالم من ممثلين ومخرجين٫ بحيث تتحول كان المدينة في الفترة التي يعقد فيها المهرجان الى ” كوكب ” سينمائي صغير٫ وبكل ابتكارات وإختراعات الفن المدهشة.
عرس ” كان ” التاريخي
ثانيا : سوف تكون الدورة ٧٥ دورة تاريخية – في رأينا- بإمتياز٫ لأنها سوف توثق، من خلال فعالياتها وأفلامها وندواتها٫ لعرس تاريخي٫ هو الاحتفال بمرور ٧٥ سنة٫ على تأسيس مهرجان ” كان ” الرسمي٫ الذي تأجلت دورته الأولى بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية ، و الذي تحددت أهدافه٫ بشكل واضح ،منذ بدايةإ ٌٌنطلاقه، في مقاومة الفاشية- في مواجهة مهرجان ” فينيسيا ” في إيطاليا ٫الذي آسسه هتلر و موسوليني ٫ضد الحكومات الديمقراطية والعالم الحر- ليكون المهرجان الجديد الوليد٫ مهرجان ” كان “، دفاعا عن حرية التعبير والإبداع في العالم.
وكان تيري فريمو المندوب العام للمهرجان، والمسئول عن إ ٌإختيار أفلامه٫ قد نبه في المؤتمر الصحفي للمهرجان الذي عقد في شهر إبريل للاعلان عن قائمة الإختيار الرسمي
نبه الى أن إدآرة المهرجان سوف تنظم ندوة فكرية وفنية كبيرة٫ بمشاركة الفنانين والمخرجين والمفكرين من آنحاء العالم لمناقشة مستقبل السينما في العالم، إسوة مع تلك الندوة التي آقيمت في ُإطار المهرجان منذ أربعين سنة خلت ، لتبحث في الشآن السينمائي٫ وعلاقة السينما بواقعنا المعاش٫ وكيف أن – كما يقول الكاتب المسرحي والشاعر الآلماني العظيم برتولت بريخت – آن بلدا بلا سينما٫ مثل بيت بلا مرآة٫ ولكل سينماه.
ثالثا : لن تكون الدورة ٧٥ مجرد شاشة كبيرة لعرض الأفلام فقط، بل محاولات دؤؤبة٫ من جانب المهرجان الكبير، في الحفاظ على ذاكرة السينما٫ وآفلامها الكلاسيكية العظيمة٫ من الإندثار والضياع٫ من خلال ترميم أعمالها التي دخلت التاريخ من أوسع باب٫ مثل آفلام المخرجين المؤلفين الكبار في العالم٫ مثل فيلم ” المومياء ” لشادي عبد السلام٫ الذي اضطلع المهرجان بترميمه٫ وعرض في نسخة جديدة باهرة بعد الترميم في دورة سابقة.
ويضم قسم ” كلاسيكيات ” كان ” في الدورة ٧٥ الاستثنائية التاريخية التي تقام في الفترة من ١٧ الى ٢٨ مايو مجموعة كبيرة من الآفلام٫ من ضمنها وبمناسبة إعتماد ” الهند “كضيف شرف للدورة الجديدة٫ فيلم ” العدو” للمخرج الهندي العظيم ساتيا جيت راي، الذي عرض في دورة المهرجان عام ١٩٥٦ فيلمه التحفة ” بانثر بانشالي – وسوف يعرض آيضا نسخا جديدة٫ لأفلام كلاسيكية للمخرجين المؤلفين العالميين الكبار : برتراند تافرنييه٫ وجان أوستاش- فيلم ” الأم والمومس ” – من فرنسا٫ وجلوبير روشا من البرازيل ٫وفرناندو آرابال من أسبانيا، وفيتوريو دو سيكا من إ ٌيطاليا٫ وآورسون ويلز من أمريكا – فيلم ” المحاكمة” المأخوذ عن رواية الكاتب التشيكي فرانز كافكا الشهيرة- و” الفالس الأخر ” للمخرج الأمريكي الكبير مارتن سكورسيزي.وغيرهم
كماسيعرض نسخة مرممة من الفيلم الموسيقي الآيقونة ” الغناء في المطر” للآمريكي ستانلي دونن بمناسبة مرور سبعين عاما على خروجه للعرض التجاري واحتفاله بعيد ميلاده السبعين
وبالاضافة الى تكريم السينما الآمريكية التي يصنعهاالسود في أمريكا من خلال منح الممثل ألآمريكي الآسود العملاق فورست ويتاكر الذي تألق في تمثيل دور الموسيقار الامريكي الآسود وعازف الساكسفون تشارلز باركر في فيلم ” بيرد ” للمخرج والممثل الأمريكي الكبير كلينت ٌإيستوود، منحه سعفة ذهبية شرفية.
رابعا : يعرض المهرجان في دورته التاريخية فيلما وثائقيا مهما بعنوان ” ماريو بوليس ” للمخرجة الأوكرانية هنا بيلو بروفاعن الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا٫ ليعكس ارتباط المهرجان بالسياسة٫ و بكل تلك القيم العظيمة٫ التي يفاخر بها الإنسان٫ قيم النضال من أجل الكرامة الإنسانية والحلم ب ” هند” أخرى في ماوراء التلال٫ وعالم أفضل٫ أكثر حبا وعدالة وتسامحا٫ وهو يوظف المشاهير من النجوم، لخدمة ” سينما المؤلف” والدفاع عن حرية التعبير في العالم٫ والتأكيد على أن القيمة الكبري للسينما تتحقق عدما تنجح فقط كما يقول المخرج الهولندي العظيم جوريس ٌيفانز في آن تقربنا من ٌنسانيتنا ٫ وترويض ذلك الوحش الذي يكمن داخلنا.
صلاح هاشم