صلاح هاشم يكتب من باريس لجريدة القاهرة عن شخصية مصر في السينما.صلاح أبو سيف في لاروشيل 1992
يعتبر مهرجان لاروشيل السينمائي، وهو مهرجان من دون مسابقة، من أشهر المهرجانات السينمائية في فرنسا، وكان الناقد الفرنسى الكبير جان لو باسيك مؤسس المهرجان ،الذي كنت أحضره كل سنة بإنتظام،وأكتب عنه في مجلة ” كل العرب” اللبنانية الإسبوعية في باريس – رئيس التحريرالأستاذ ياسر هواري – ، طلب مني عام 1992،أن أختارمخرجامصريا، لتكريمه، ضمن 4 مخرجين من مشاهيرالمخرجين السينمائيين في العالم ،بمناسبة مرور 20 عاما على تأسيس المهرجان، وقال لي، فكر ياصلاح وأخبرني.
لكني أجبته في التو، أختار الأستاذ مخرجنا المصري الكبير صلاح أبو سيف، فصاح الله الله..عظيم جدا،والله كنت أتمنى ياصلاح من قلبي ،أن تختار صلاح أبو سيف، وكنت أحسبك ستختار يوسف شاهين ،فلا حديث هنا في فرنسا، في ما يخص سينما مصر، إلا عنه وأفلامه،وأسباب ذلك معروفة،وفي ما يخص مخرجا عظيما كصلاح أبو سيف، فصمت تام..
.ثم سالني جان لوك باسيك ،الذي أشرف على تحرير وإعداد قاموس ” لاروس ” في السينما مع مجموعة كبيرة ،من أشهر كتاب ونقاد ومؤرخي السينما في فرنسا والعالم، والذي كان يعمل آنذاك – عمله الرسمي – مشرفا على قسم السينما في مركز جورج بومبيدو الثقافي ” بوبورغ ” ، كما كان يشتغل منسقا للجنة تحكيم مسابقة ” الكاميرا الذهبية ” في مهرجان ” كان ” السينمائي هل يمكنك يا أستاذ صلاح ،وبدون تكليف إعداد والاشراف على احتفالية ” تكريم ” HOMMAGE لصلاح أبوسيف، وإحضار أبو سيف الى لاروشيل ،وحضور تكريمه مع أهل المدينة، في عيدها السينمائي الكبير، فأجبته على الطريقة اللبنانية، مثل قبضاي، ولو ..طبعا أقدر ..
محمد بيومي
وأتصلت بالاستاذ صلاح أبو سيف هاتفيا في التو، وأبلغته بالموضوع، وتحمل المهرجان نفقات سفره من مصر الى فرنسا ،واقامته مع حرمه في المدينة، في فندق 5 نجوم، ونفقات سفره من باريس الى لاروشيل ، وكل شييء، بل كل ما يريد، مثل الجنى الذي ظهر لشخصية اللص ” آبو ” في فيلم ” لص بغداد “. فوافق الأستاذ صلاح أبو سيف على الفور، وسألني طيب يا أستاذ صلاح ماهي الأفلام التي اخترتها لتعرض في الاحتفال بتكريمي في المهرجان ؟
فأجبته بأنه تحضرني مجموعة من الأفلام، التي لابد أن تعرض في إطار ذاك التكريم مثل ” بداية ونهاية ” و ” الفتوة ” و ” شياب إمرأة ” و ” الوحش ، و ” السقامات ” و ” بين السماء والأرض “، و ” القاهرة 30 “،وطلبت منه أن يتواصل مع الأستاذ هاشم النحاس، الذي كان أنذاك يشغل منصب رئيس المركز القومي للسينما، لعمل نسخ جديدة، من تلك الأعمال السينمائية المصرية الفذة، وكنت أشعر بأن تكليفي بمهمة تكريم أعظم مخرج عرفته بلادي – في رأيي الشخصي – عند الحديث عن شخصية مصر في السينما، مسئولية كبيرة ، لرفع إسم مصر، والسينما المصرية وتراثها السينمائي العريق،رفعهما عاليا في سماء فرنسا، وإن سعادتي بمثل هذا تكريم، وإفتخاري به، سوف تصحبني طوال حياتي..
وكتبت لاحقا في كتالوج المهرجان،عن موقع صلاح أبوسيف في السينما المصرية تاريخها وذاكرتها، وإرثهاالسينمائي العريق، وتأثيراته في الوعي الجمعي المصري وهو الشييء الذي دفعني في مابعد ، إلى إعداد رسالة دكتوراه عن شخصية مصر في السينما ،في جامعة فانسان .باريس 8. فرنسا، وإخراج فيلمين وثائقيين، فيلم ” البحث عن رفاعة ” عن فاعة الطهطاوي رائد نهضة مصر الحديثة ” ، وفيلم ” وكأنهم كانوا سينمائيين .شهادات على سينما وعصر” الذي يضم شهادات للأساتذة د.صبحي شفيق، ود.رمسيس مرزوق، والروائي بكر الشرقاوي،عن شخصبة مصر في السينما ،وقلت بأنه إذا تحدثنا عن ” شخصية مصر في السينما ” فإنه هو مخرجنا الكبير صلاح أبوسيف، المخرج الذي وضع “الشعب المصري” على الشاشة،وجعله بطلا – وليس ” أولاد الذوات” في ردهات القصور- لكل افلامه..
وعندما حضرأستاذي صلاح أبو سيف، من باريس الى لاروشيل، زغرودة يا أولاد ، وتحيا سينما مصر بلدنا، كنت في استقباله هو وحرمه – وكنت سبقته الى هناك، للخروج في الموكب الحافل – في صحبةعمدة المدينة وحشد من النقاد والصحافيين والمصورين، وأهل المدينة، وجان لو باسيك مؤسس ورئيس المهرجان،وكتبت الصحافة الفرنسية،عن الحدث السينمائي الكبير في فرنسا واحتفالية السينما المصرية، في شخص صلاح ابو سيف، وتصدرت عناونيها مانشيت كبير يقول، أن صلاح ابو سيف ،حمل شمس مصرالى لاروشيل المدينة..
وكان وجه صلاح أبو سيف، عندئذ، وفي غمرة الموكب الحافل، يشرق بالفرح العميق، مثل إنسان يصحو من نومه هكذا فجأة، فإذا به يدرك في التو،وبحضوره في المشهد الكرنفالي الاحتفالي الكبير، وموسيقى عذبة، تصدح في الأرجاء،أن حلم حياته قد تحقق، أمام عينيه، وهو غير مصدق.. ياحبيبي ..
وهكذا عبر لي صلاح أبو سيف عن سعادته ،وأعتبر أن ذاك التكريم الذي تشرفت بإعداده والإشراف عليه ،كان أعظم تكريم له وللسينما المصرية ، أقيم له في حياته..
صلاح أبو سيف والوعي بالسينما
في كتالوج المهرجان ،كتبت كلمة باللغة الفرنسية، تحت عنوان ” صلاح أبو سيف، والوعي بالسينما قلت فيها ،أنه للحديث عن صلاح أبو سيف، يجب أن نضعه في سياق تاريخ مصر ،وتاريخ السينما المصرية، فمصر هي البلد الوحيد، في القارة الإفريقية، الذي كان لديه،ومنذ فترة الثلاثينيات، صناعة سينمائية حقيقية. ومع ذلك، تعود معرفتنا بالسينما في مصر، هذا الفن الجديد، إلى عام 1896، من خلال عرض أول أفلام الشقيقين لوميير في مقهى “زواني” في الإسكندرية، بعد مرور عشرة أيام فقط ،على عرض نفس الفيلم في باريس!
ولدت السينما في مصر ،في نفس الوقت الذي اخترعت فيه السينما الصامتة في العالم، حيث كان أول فيلم مصري روائي طويل، فيلم “ليلى” لإستيفان روستي، الذي أنتجته الممثلة المسرحية عزيزة أمير، هو في الواقع من إنتاج عام 1927. ولكن أول فيلم مصري حقيقي، هو فيلم ” الباشكاتب ” لمحمد بيومي،وهو فيلم روائي قصير صامت تم إنتاجه في عام 1922. واليوم نستطيع، بفضل الفيلم الوثائقي “محمد بيومي” الذي أخرجه المخرج المصري الشاب محمد القليوبي، وهو صديقي ومن جيل الستينيات الذي ننتمي سويا إليه ، نتعرف على حياة هذا الرجل محمد بيومي، الذي حُكم عليه بالتقاعد المبكر، بسبب وطنيته، واحتجاجاته ضد جيش الاحتلال الإنجليزي. إنه هذا الضابط في الجيش المصري، الذي يعتبر مؤسس الفن السابع في مصر، فقد كانبيومي أول مصري يبني استوديو، بفضل الكاميرا التي اشتراها من النمسا، واستطاع أن يؤسس ايضا لـ “لجريدة الناطقة” في مصر، فقد صور عودة الزعيم “سعد زغلول” من منفاه، والحشد الذي خرج في الشوارع لاستقباله بحماس ودفء ، وهو حدث مهم، لأن الاحتلال الإنجليزي كان قد استسلم، من خلال إطلاق سراح سعد زغلول، لإرادة الشعب المصري..
وهكذا نكتشف أن أول كاميرا سينمائية عرفتها مصر،كانت تكرست لتصوبر الحشود المصرية الغفيرة في الشارع،وتعبيرات الوجوه، وهي تسجل حدثا تاريخيا وسياسيا كبيرا ، وتحفظه في “لذاكرة الجمعية ” للشعب المصري.
زرع محمد بيومي هذه الفكرة في السينما ، كوسيلة للتعامل مع الواقع الاجتماعي والسياسي ، ومواجهة المجتمع. وقد تمثل ذلك في فيلمه “معلم برسوم يبحث عن وظيفة”، وهو فيلم روائي قصير صامت، تم إنتاجه في العشرينات، يتناول قضية البطالة. ولكن اشترت إدارة بنك مصر، الذي أسسه طلعت حرب، إشترت معدات محمد بيومي، وبالتالي وجد نفسه بدون عقد، وانهار حلمه في التعبير عن نفسه، وفي خلق سينما وطنية مصرية..
ومر وقت طويل، بل لقد استغرق الأمر حتى عام 1939 ، ليجد الناس ، في الشوارع الشعبية بالقاهرة،حياتهم اليومية على الشاشة من جديد، في فيلم، ” العزيمة ” للمخرج المصري الكبير كمال سليم، ثم ترسخ هذه الإتجاه الواقعي، بعيدا عن أفلام الفارس الفكاهية، والميلودرامات الفاقعة ،بمبالغاتها العاطفية الساذجة، وأفلام المسرح المصور ، ترسخ وتجسد – وبشكل مذهل – في أفلام صلاح أبوسيف..
أبو سيف هو المؤسس الحقيقي للسينما الواقعية، ليس فقط في مصر ، ولكن في العالم العربي، وهي مدرسة تعتمد في صنع أفلام، ترصد حركة تطور المصري ،وتصور تاريخه وذاكرته / منذ أكثر من نصف قرن ، و. بفضل هذه السينما الواقعية التي تمد يدًا للفقراء والمحرومين، وجدت مصر” مرآة ” تعكس صورة هؤلاء الفقراء الذين يعيشون في حواري وازقة المدينة، ورصيف الشارع العام، وحتى المصاعد والاسانسيرات. وفي لحظات،عبر أشرطة أفلام السينما الواقعية، يتوقف هؤلاء – من جميع طبقات الشعب المصري – أحيانا، في أفلام صلاح أبو سيف، ليكشفون لنا عن وجوههم.. وذلك ” الحس الفكاهي ” المصري الجبار، الذي يميز الشخصية المصرية يسخر من كل شييء، و يفلسف وجوده من خلال تراجيديا الحياة المصرية في واقع سريالي وفكاهي وعبثي..
أبو سيف، هو تجسيد، لما يسمى في مصر بسينما ” المؤلف “، ليس لأن أفلامه تمثل التجسيد الأفضل للسينما المصرية في الخارج، ولكن لأن مجمل أعماله بملامحها السينمائية المميزة، تجعل من الصعب أن تفرق فيها، بين اللامع والأقل لمعانًا، بين سمة ” العبقرية” الفذة ، والعيب الأبسط.
وبفضل إصراره، نجح صلاح أبو سيف، في أن يفرض نفسه، وفي بيئة سينمائية خاصة ومحجوزة لأبناء الارستقراطية المصرية، وأبناء التجار البرجوازيين الكبار، و ” أولاد الذوات ” الباشوات ، من هواة السينما..
إنه، ابن الشعب، المولود في حي بولاق، وهو حي فقير في ضواحي القاهرة، الذي نجح في إنشاء سينما شعبية ، من دون الوقوع في التبسيط والابتذال،، سينما قادرة على تمثيل العمال ،والناس العاديين، كأبطال يظهرون في وسط الشاشة، الذين، للحظة، لا يكونوا مجرد متفرجين، للاستهلاك فحسب، في سينما مصرية،كانت تعتبر الفيلم الأمريكي نموذجًا، لما يجب الإعجاب به في السينما ، وتقليده حتى في أدق التفاصيل..
قام صلاح أبو سيف، فنان الشعب، بتغيير القواعد الثابتة، وخلق سينما وطنية مصرية حقيقية، تتحدث أولا إلى المصريين، وأسس لتيار واقعي، لايكتفي بوصف حياة الفقراء وحياة الأغنياء بصدق،بل يطمح أيضا الى رفع مستوى الوعي عند الناس ، وحثهم على اتخاذ ” موقف “، تجاه المشاكل التي تواجههم، وبكل مافي الولقع المصري من أزمات، وصراعات ” طبقية ” وتناقضات..
حطم أبو سيف العديد من التابوهات والممنوعات، من ضمنها وأصعبها ربما ، تصوير بؤس الحياة في البلاد،ونشر عسيل مصر الوسخ على السطوح، والحديث في السياسة والدين والجنس، مما كان له تأثيراته في خلق سينما مصرية في فراغ ، فلا هي سينما ، أو تعدم فيها السينما، وأصول وضروريات الفن. ولا هي مصرية، حيث لا تناقش أفلامها – وفي معظمها – سوى موضوع زواج “أولاد الذوات” من أجنبية..
في حين إستطاع أبو سيف – باختراق المحرمات – خلق ” نواة : لتقاليد سينما واقعية ، من خلال مجموعة كبيرة، من أفلامه مثل ” بداية ونهاية ” و ” الفتوة ” و” شباب إمرأة ” ، وتأسيس ” نواة ” لإرساء ” سينما واقعية “، تطورت بمرور الوقت – لتصبح جزءًا لا يتجزأ ،من تاريخ و روح و ” نفس ” السينما المصرية المتوهجة، وتراثها السينمائي العريق. وببطء، نجح أبو سيف في التكيف، مع جميع المتغييرات الاجتماعية والسياسية في مصر، لتاسيس ” سينماتيك ” – أرشيف سينمائي أو مكتبة سينمائية خاصة به / وتحمل إسمه ،ولذ إذا كنا الآن – إحنا الشعب – نجد أنفسنا، ليس فقط على الشاشة، بل في قلب ومركز الشاشة، نحن الناس الذين نعيش نسكن في تلك الأزقة ، ونتردد على أسواقها ومساجدها ، نحن ” أولاد البلد “، فإن الفضل في ذلك يعود الى صلاح أبو سيف وأفلامه..
وإذا كان لدينا الآن “وعي” ما، بأن السينما، هي في قلب حياتنا، لأننا نكون أبطالها، ، فهو بفضل أفلام أبو سيف.ومنذ ذلك الحين، ومنذ أن تحقق لنا ذلك ” الحضور”، فنحن لاتقبل ابدا أن نغادر، بل نصر على البقاء هناك، ونحن نمنح حياتنا، وتعبنا، وشقاءنا، طموحاتنا وأحلامنا، بعدًا من النعمة والسحر. .
إن هذه النعمة ، و ذاك السحر، لاشك، هما اللذان يمكناننا ،من تحمل مسئولية حياتناأنفسنا. إنهما يقينا يمنحانا الأمل، وعلى الرغم من كافة المشاكل والمسؤوليات في الوقت الراهن، رعب وظلم الحاضر، للمضي قدمًا ..نحو المستقبل.وللحديث يقية.
بقلم
صلاح هاشم.باريس
صلاح هاشم مصطفى ناقد وباحث ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا