صلاح هاشم يكتب من باريس لجريدة ” القاهرة ” هؤلاء علموني.فريد المزاوي
فريد المزاوى ( من مواليد 3 نوفمبر 1913 وتوفي في 5 مايو 1988 ) هو واحد من أهم رواد الثقافة السينمائية في مصر، فقد كان أول من أسس ” ندوة الفيلم المختار “عام 1956، وقد كانت فترة الخمسينات فى مصر، من أعظم الفترات التاريخية التى عاشتها السينما المصرية، بعد ثورة 23 يوليو 1952 ، وعقب تأميم شركة قنال السويس، وتمصير الاقتصاد المصرى، وتحقيق الاستقلال السياسى، وكان المصريون يشعرون وقتذاك ،كما يقول الأستاذ فريد المزاوي في حواري هنا معه، أن مصر تعود إلى أصحابها الحقيقيين ، وهم يحملون ويطمحون، فى مستقبل أكثر رحابة وتقدما..
وقد أنعكس هذا التحول السياسى، على بنية المؤسسات الفكرية والفنية والثقافية في مصر، وكان على رأس وزارة الثقافة أنذاك ثروت عكاشة، فأسس ( مصلحة الفنون ) وأختار فنان القصة الأديب والكاتب المصري العظيم يحيى حقى – هؤلاء علموني لادارتها ، فاختار بدوره من معاونيه نجيب محفوظ ونعمان عاشور، ولقطاع السينما اختار رجلاً صامتاً خجولاً ، هو الفنان فريد المزاوى الذى يعتبر بحق رائداً من رواد الثقافة السينمائية فى مصر، فأسس ” ندورة الفيلم المختار ” عام 1956 ، وهو أول نادى حقيقى للسينما، تحت إشراف الحكومة..
وكانت الندوة تعقد فى الصيف فى حديقة قصر عابدين التى فتحت أسواره للشعب، بعد أن طرد الملك فاروق خارج البلاد، وبعد عرض الفيلم ،يقوم ناقد فنى فى وجود المخرج ويقدم الفيلم ، ويتحدث عن عناصر العمل السينمائى، من سيناريو وتصوير واخراج الخ ،ويعقب ذلك مناقشة، وكانت تطبع ورقة ، فيها نبذة عن المخرج والفيلم.وقد بهرت هذه التجربة الديمقراطية الفنية أفراد جمهور الندوة ، فتجرأوا على اقتحام منصة المناقشة، فبرز منهم بعض الأعضاء الذين صاروا في مابعد نقادا وكتابا ومخرجين بارزين، منهم الناقد والمؤرخ أحمد الحضرى وهاشم النحاس ويوسف شريق رزق الله وغيرهم ..
ولعل هذه الندوة كانت بداية الدعوة لسينما مثقفة تجريبية واعيةـ إذ كانت تدعو للإنفتاح على سينما العالم، فعرّفت بأفلام الواقعية الجديدة فى إيطاليا ، وبالسينما الروسية واليابانية، وسينما كراسات السينما فى فرنسا، عبر أفلام الموجة الجديدة الفرنسية..
إيزنشتين
ودعت إلى تشجيع مخرجين كصلاح أبوسيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين،وكانت فترة الخمسينات من أخصب فترات التكوين السينمائى . وكانت المناقشات التى تدار بعد عرض الفيلم فى ( ندوة الفيلم المختار ) تمتد بالساعات أمام القصر بعد ذلك..
فى هذه الفترة وبفضل الجمعية وأعضائها، عرفنا أيضا أن للسينما كتبا ومجلات، وأنها علم وثقافة، وبدأ الأستاذ أحمد الحضرى يكتب عن شابلن الانكليزى، وجريفيت الأميركى ، واينشتين الروسى، فى مجلة (المجلة) التى كان يرأس تحريرها يحيى حقى..
وكانت ( ندوة الفيلم المختار ) بمثابة الأم التى أنجبت ( جمعية الفيلم ) التى تأسست عام 1961 ويترأسها الأن مدير التصوير المصري الكبير محمود عبد السميع ،وكان على الجمعية أن تقوم بتكريم جيل الرواد الذين وضعوا نواة هذه الجمعية، فكان الأستاذ فريد المزاوى – مؤلف العديد من الكتب مثل ” اللغة السينمائية والكتابة بالصورة ” و “كيف تكتب السيناريو ” ومؤسس المركز الكاثوليكي المصري عام 1948، أحد هؤلاء الذين حصوا على وسام شرف الجمعية، تقديراً لجهوده الكبيرة فى دعم ورعاية ندوة الفيلم المختار،وإدارة الثقافة السينمائية الجماهيرية، فضلا عن ريادته فى ترجمة الكتب السينمائية، وكنت لتوثيق لتلك الفترة الهامة، من تاريخ السينما في مصر،حرصت في إحدي زيارتي لبلدي في فترة الثمانينيات، على إجراء الحوار التالي معه..
جلسنا والأستاذ فريد المزاوى فى المكتب الكاثوليكى المصرى الذى يديره ، وشرع يتحدث إلي عن أول معرفة له بفن السينما، وخطواته الأولى، فى الاتجاه لهذا الفن :
( ..كنت فى الرابعة من عمري، وكان أبى يصطحبنى إلى السينما البلدية ، وهى عبارة عن مقهى يلعب فيها الكبار الطاولة،بينما نتفرج نحن الأطفال فى ركن من أركانها على الصور السينمائية الساقطة على شاشة عرض ، كان ذلك فى عام 1917 ، ومازالت أتذكر بعض المشاهد منها مشهد رجل يضع جذع شجرة ضخم فى منتصف الطريق ،ليقطعه على عصابة تود اللحاق به والقبض عليه ، ومشاهد مطاردات، ورجل يمشى على الحيطان. عشت مع عائلتى فى طنطا من 1916 إلى 1918 ثم جئنا إلى القاهرة ، وأصطحبنى خالى إلى محل ( أوبون مارشيه دوباريه ) فى موقع محل جاتينيو الحالى بالقاهرة ، فتوقفت أمام لعبتين : قطار يتحرك على قضبان وفانونس سحرى يعمل بالغاز – الكيروسين – كنا فى عام 1921 وكنت فى الثامنة من عمرى فأخترت آلة العرض السينمائى ، وقمت بتطويرها ، فثبت فيها لمبة كهربائية ، وكنت أشترى الأفلام القديمة من العتبة/ وأكتشفت الرسوم المتحركة فكنت أنحت صوراً على شريط الفيلم الخام تتحرك عند العرض ، ومازلت أحتفظ ببعض أجزاء ماكينة العرض هذه ، ولقد تأثرت بكل هذه الأشياء ،مما جعلنى أحب السينما..
تعلمت فى مدارس الفرير الفرنسية ، ثم التحقت بكلية الحقوق وحصلت على ليسانس، وكان أبى يعمل بالمحاماة، وأرادنى أن أسير على نفس النهج ، ثم درست الهندسة الميكانيكية لمدة عامين ثم نشبت الحرب، فتوقفت عن الدراسة، ثم سافرت إلى فرنسا ودرست فى “الايديك” عام 1946 ، وعدت عام 1949 ، وبدأت أختلط منذ ذلك الوقت بالسينمائيين وأهل الوسط الفنى،وكانت ” الشللية ” من أهم ملامحه، فلم يكن من السهل النفاذ اليه، الا عن طريق وساطة صديق يقوم بتقديمك، وعليه لم يكن للشهادة التى حصلت عليها أية قيمة ، لكننى لاحظت أنى أبتعد عن العمل السينمائى تدريجيا، منشغلا بمهام أخرى كنت أكلف بها على هامش الحياه السينمائية العملية الفعلية. أترجم لزوار الوسط من الضيوف الأجانب ، وأحشر حشرا فى كل لجنة ثقافية تشكل ، أو ندوة تقام عن فيلم معروض..
كما أن العمل كمساعد مخرج كان يقتضى أن تحمل له حقيبته وأن تشتم الناس إذا شتمهم، وتسب الممثلين إذا فعل، لكننى استطعت فى النهاية أن أندمج مع شلة صلاح أبو سيف وحلمى حليم، وكانت منسجمة ومتآلفة أكثر من غيرها ، لكنى وجدت نفسى بعد حين، ألجأ إلى سلاحى الذى أحمله، أقصد الثقافة التى تحصلت عليها من خلال دراستى فى الخارج..
جريفيث
كنت متفوقا فيما كان يطلق عليه فى ذلك الوقت بـ (العلم السينمائى) أو الثقافة السينمائية والحقيقة أن الفضل يرجع إلى اندريه مالرو- وزير الثقافة الفرنسى فى حكومة جورج بومبيدو – فى تعميم استخدام كلمة الثقافة، في أوائل الخمسينات، بالمعني المقصود والشائع حاليا، أى نوع من التربية أو المعرفة ، يجب أن يصاحب الانسان، حتى يجعله أكثر انسانية ، لذلك طلب منى الاستاذ يحيى حقى حين وكل اليه أمر الاشراف على مصلحة الفنان، أن أعمل معه، فأسسنا ادارة الثقافة السينمائية عام 1956، كقسم تابع للمصلحة..
وفى اطار ادارة الثقافة، أسست (ندوة الفيلم المختار) وكنت مسئولا عنها ، وبدأت الندوة تزاول نشاطها صيفا فى حديقة قصر عابدين ، وشتاء في صالة الليسية فرانسيه بشارع الشيخ ريحان بالقرب من قاعة إيوارت ، ومازلت أذكر أن حفلة عرض ( ندوة الفيلم المختار) الأولى حضرها أكثر من ألفى متفرج ، وشاهدوا فيها فيلم (عطيل) الروسى على ملاءة منشورة، واستخدمنا جهاز عرض 35 ملم بلمبة ادرته بنفسى ، وكانت النتيجة خصم يوم من مرتبى ، لكن – بعد الخصم – حصلنا على ميزانية قدرها خمسة آلاف جنيه وملحقاتها ، لكى نبنى فى هذا الركن الذى أخترناه في الحديقة ، لكى يكون موقعا لأول ندوة فيلمية عرفتها مصر، نبنى ” كابينة ” عرض ممتازة من الدرجة الأولى، ونشترى شاشة بعرض 12 مترا ، وكان لهذه الندوة تأثيرها العظيم فى تغيير الطريقة التى يفكر بها الناس فى السينما، وبدأت أفكر بشكل مختلف، وكانت النتيجة هروب السينمائيين.
* لم الهروب وهي ندوتهم ؟
– كانوا يقولون لى ندوتك (مقلب) لأنهم – أي السينمائيين – كانوا يفتقدون الوعى، بأهمية المناقشات الجدية، التى يمكن أن تدار حول أفلامهم ، كانوا يهابون النقاش، ويعتقدون أنه لا يمكن أن يخرج عن حيز الشتائم والسباب، والاتهامات المتبادلة ، ويظنون أن المعارضة فى الرأى شتيمة . وكانوا على حق، في تهيبهم من حضور ندوة الفيلم المختار.
تأسيس ندوة الفيلم المختار ثورة تاريخية
* لماذا ؟
– لأن كل النقد السينمائى الذى كان ينشر فى فترة الخمسينيات وما قبلها، كان ينحصر فى الهجوم علي الأفلام، والتهكم عليها، كان ” شطارة كلام : ليس الا، و ” وفرش ملايه ” كما يقولون بالبلدى، والمقصود بها هجاء المخرج وعمله، وابتكار الرسومات الكاريكاتورية، التى تجعل الجمهور ينفجر ضحكا ، من شدة السخرية بالفيلم ، والناقد دائما وأبدا علي حق..
أبو سيف.بداية ونهاية
تأسيس ندوة الفيلم المختار كان بمثابة ثورة تاريخية، بمعنى التأكيد على الوعى السينمائى، والتأكيد على حرية المتفرج، فى أن يتكلم ويعبر عن رأيه، وأن يحلل ويتفهم ،لا أن ينقد، وقد تخرجت أول دفعة من معهد السينما في مصر من ( ندوة الفيلم المختار ) فقد مهدت الندوة لأفرادها الطريق ، قبل أن يلتحقوا بالمعهد حين تأسيسه ، نظمنا فى الندوة عروضا للافلام العلمية وأفلام الأطفال والأفلام الموسيقية والأفلام العائلية، وكنا نعقد محاضرة كل يوم سبت حول موضوع معين ، ومازلت أذكر أخر محاضرة ألقيتها بعد مرور 4 سنوات على تأسيس الندوة، وقد حضرها ما يزيد على الألف شخص – كانت الندوة تضم 1200 كرسىيا ، وكانت بعنوان: كيف أسست ندوة الفيلم المختار، والصعوبات والعراقيل الجمة التى اعترضت طريقها، وكيف تغلبت عليها ، وفى نهاية صيف 1959 تم اغلاق هذه الندوة، على الرغم من النجاح الذي حققته..
* كيف ولماذا تم أغلاق هذه الندوة ، وهى فى قمة نجاحها وفى أحسن حالاتها ؟
– كان صاحب القرار عبد المنعم الصاوى، الذى دعانى إلى مكتبه وابلغنى بقراره على أساس أن الندوات تحولت إلى ” ندوة ارستقراطية” ، وكان يفكر بأن تمتد الثقافة السينمائية عبر قنوات أخرى أوسع وأرحب وأشمل، لكى تصل إلى الجماهير ! ..
ولما أعترضت على الأمر، وأوضحت له أن الندوات ” الأرستقراطية ” كما يحب أن يطلق عليها لا يمكن أن تضم فى العادة 40 عضوا فى مجلس ادارتها، كندوة الفيلم المختار ، وعليه فإنها لا يمكن أن تكون بندوة خاصة ارستقراطية، أليس كذلك ؟..
بالاضافة إلى نجاحها الجماهيرى، يقطع بأنها لا تمت إلى الارستقراطيه بصلة ، ولم يكن لهذا الاعتراض أية نتيجة تذكر، ولم أنجح فى جعله يتراجع عن موقفه – كنت أظن أن هذا الرقم الوهمى، الذى يتألف منه مجلس إدارة الندوة ،والذى نطقت به كذبا، سيجعله حريصاً على بقاء الندوة، لكنه أساء فهمى – رحمه الله- وأعتقد بأننى أتحدث عن الجمهور الذى نجحت فى أن أجعله يواظب على حضورها ، ولم يكن هذا العدد فى تصوره، وبعد مرور 4 سنوات على تأسيس الندوة ، بكاف للأبقاء عليها ، وعقب آخر عرض قدمته ندوة الفيلم المختار، أجتمع أعضاء مجلس إدارتها وأستقر رأيهم على إنشاء أول جمعية – بدلا من الاعتماد على الأجهزة الحكومية – لنشر الثقافة السينمائية هى (جمعية الفيلم) بالقاهرة ، وقد فضلنا البقاء خارج الجمعية، حتى نستطيع أن نقدم لها يد المساعدة من موقعنا الوظيفى ، بلا حرج .
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة ” القاهرة ” – العدد 1229 الصادر بتاريخ 6 فبراير 2024