غدا آلة تلخص لكم خبرة المشاهدة ؟ بقلم صلاح هاشم
إتصل بي في باريس منذ فترة ناقدان صديقان، ليسألا عني وأحوالي, ، قال الأول انه يعاني كثيرا من سرقة مقالاته ومقالاني، وأشتكي لي الثاني من مهرجان ، وكنت منهمكا آنذاك في الاشتغال علي فيلم وثائقي طويل ، عن رائد نهضة مصر الحديثة، ومنتجته، فيلم ” البحث عن رفاعة “، وانا الى جانب عملي وتفكيري فيه، ومشاهداتي لبعض الافلام داخل برنامجي اليومي المكثف في باريس، ليس لدي وقت للالتفات الى اي شييء آخر..
وتحدثنا الناقد الأول وأنا في أشياء كثيرة، من ضمنها ايقاع الحياة المتسارع المجنون هنا في باريس الذي نعيشه، فلقد ارتفعت حدة الصياح والزعيق والضجيج من عنصر ” السرعة ” الذي دخل حياتنا ،حتي اوشك العالم ان يصبح قنبلة موقوتة وعلى وشك الانفجار في اي لحظة ، بسبب ثورة الانترنت هذه ، التي لم تخطر ابدا على بال، بعدما أصبحنا ضحايا وغرقي، في محيط الاعلام المرئي المعاصر ، وتكاد دوامته ان تبتلعنا ،حتي اني بحثا عن معلومة ما ، صرت الآن اتردد،لحاجتي الى السكون والهدوء احيانا، في ان افتح على الانترنت، حتي لا اصاب بوجع الدماغ ، وارحم نفسي من التقليب في صفحات سيول المعلومات، التي تنهال على أم راسك، وأنا أريد أن احتفظ برأسي ،واخشي ان تبتلع ابتكارات التكنولوجيا الحديثة المتطورة ، المنظورة المرئية والخفية والقصف الاعلامي بشكل متسارع لاهث ، أخشى تبتلع وتلتهم كل حواسنا ، بعد ان انتزعت منا حاسة ” اللمس “، و لم نعد نطبطب على بعض، و نسلم على أحد ، الا بهز الرأس، من بعيد لبعيد، ونحن نتحدث في الهاتف الجوّال…
وأخشى ان تنتزع منا تلك الاختراعات المادية الميكانيكية المعدنية الباردة القادمة حتما، ومع تطور الذكاء الإصطناعي وتكنولوجيا الآفاتار والعوالم الافتراضية، وهي تحث على الطريق حاسة الرؤية ايضا، ونعمة الابصار والحلم في الظلام ،..
وبدلا من ان نشاهد الفيلم ، تقدم لنا تجربة أو” خبرة EXPERIENCE مشاهدة الفيلم في ” برشامة” ، و تدع آلة تشاهده لنا ، ثم تقدم لنا الآلةفي ما بعد، وعندما يحين الوقت بمزاجنا ، تقدم او تطرح ملخصا للفيلم، وعايز يقول إيه ، وبعد مراجعة وتحرير ” خلاصة ” خبرة المشاهدة ” التي حققتها الآله ، تقوم شاكرة بارسالها للنشر كمقال سينمائي في جريدة يشرف على صفحاتها السينمائية جاهل حمار ..
ويقينا أن مثل تلك آلات، سوف تتواجد قريبا حتما، في ظل اعتماداتنا علي الماكينات في كل شييء ، وهيمنة دكتاتورية الصناعات التكنولوجية الحديثة علينا بأزرار ، واستحواذها تدريجيا على انسانيتنا …
فقط داخل تلك القاعة المظلمة في ” سينما إيزيس” في حينا العريق ” السيدة زينب ” و شارع مارسينا ، على بعد خطوات من حديقة حوض المرصود ومستشفي الرمد الشهير ، في عموم القطر المصري كله ، حيث كان يصعد اليه من الصعيد والدلتا الالاف من المصريين الغلابة الذين يشكون من اوجاع في عيونهم..
كنا نحن الاطفال الاشقياء من حي “قلعة الكبش”القائم فوق هضبة علي ” جبل يشكر” ، ندلف الى تلك القاعة التي تعرض فقط افلاما أجنبية، قاعة ” سينما إيزيس “، وبعيد اعن كل ذلك الصخب والضجيج في الخارج، كنانحلم نحن الأولاد الأشقياء في ” قلعة الكبش “في الظلام ..
وكان حلمنا، بحجم طفولة إنسانية عذبة ، وشقاوة محببة، وعالم من التآخي والتسامح والعدالة.، و” هند أخرى ، في ما وراء التلال، أكثر عدالة وحبا وتسامحا..
جعلتنا السينما – التي هي ” فكر ” أولا، وأداة تفكير في واقع وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية كما يقول المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي الكبير جان لوك جودار..
جعلتنا نقترب أكثر من انسانيتنا، و نقتدي بمسلك ذلك الغريب ،على سكة سفر طويل في فيلم إليا كازان” أمريكا أمريكا.إبتسامة الأناضول ” ، وأطلقتنا مثل بروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة ، أطلقتنا من الحبس، ووضعت العالم في متناول ايدينا..حتى نسبح في فضاءات السينما الرحبة، والمفتوحة على الحرية..
بقلم
صلاح هاشم
كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا.موسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس الجديدة ” عام 2005