فيلم “رأس السنة “: تعيش كل طايفه من التانية خايفه بقلم مجدي الطيب
إلى روح أستاذي ومعلمي أسامة فوزي .. إهداء تصدر عناوين فيلم “رأس السنة”، ربما ترك انطباعاً إيجابياً، من الناحية العاطفية، لكنه، من الناحية الفنية، لم يكن له تأثير، مُطلقاً، في استقبال وتمرير الفيلم، الذي أزعم أنه واحد من أسوأ الأفلام التي كتبها وقدمها محمد حفظي، سواء ككاتب أو كمنتج. وذلك لاعتبارات عدة؛ على رأسها الاستخفاف، والسطحية، اللذين تعامل بهما مع قضية الصراع الطبقي، والتعايش السلمي، في المجتمع المصري، وثانيها، وأهمها أن – حفظي – لم يُعرف، من قبل، بأنه صاحب “أيديولوجيا”، أو وجهة نظر، ليدلي بدلوه في قضية بمثل هذه الخطورة والجدية !
كعشرات الأفلام، التي تتناول أحداثاً تجري بين يوم وليلة، اختار “حفظي”، لسبب مجهول، يوم 31 ديسمبر عام 2009، ليرصد فيه احتفالات “ولاد الناس”، بوداع عام مضى، واستقبال عام جديد، في مكان يليق بصورتهم، وتطلعاتهم، وانفصالهم، في أحد المنتجعات القريبة من مدينة الغردقة (الجونة غالباً)، ومنذ اللحظة الأولى ترصد الكاميرا (فيكتور كريدي) مظاهر الثراء الفاحش لأبناء هذه الطبقة، سواء على صعيد الطائرات الخاصة، التي أقلتهم من بعيد ليعيشوا ليلة، ربما لا أكثر، في فيلات فاخرة يملكونها، وأموال باهظة ينفقونها، وحرية لا حدود لها، يُطلقون العنان خلالها، لمجونهم، عربدتهم، خياناتهم، وبذخهم، الذي يثير حفيظة، وحقد، أبناء الطبقة، التي تخدمهم، لكن أحداً لا يجرؤ على أن يُظهر ما يُبطن خشية “غضب الأسياد” !
طبقة نسمع عنها ولا نعرفها !
بالطبع حاول “حفظي”، والمخرج الشاب محمد صقر، في أول تجربة له كمخرج، بعد عمله من قبل كمنتج فني، أن يستعرضا الشريحة الأخرى، التي يُفترض أنها تخدم هذه الطبقة الجديدة؛ التي لا مكان فيها لأيدي عاملة، فما كان منهما سوى أن قدماها في صورة “مروجي المخدرات”، ومسئولي صف السيارات، والشباب، الذين يقدمون أجسادهم الفتية، قرباناً على مذبح نساء الطبقة، ممن يقتلهم الحرمان الجنسي، ويرتعن في الخيانة، ويغرقن في المثلية الجنسية، ومن ثم يُصبح الفقر دافع الشباب للثأر لأنفسهم من هذه الطبقة، التي تنظر إليهم بوصفهم حشرات، وكائنات ضالة، تنتظر الإحسان، إما بسرقتهم،، أو بالمخدرات التي يبيعونها إياهم !
زاوية تناول، غاية في الغرابة، تظهر نية العمد فيها، بالتركيز على سماحة، وتواضع، ورقي، أبناء هذه الطبقة فاحشة الثراء، التي لا نعرف لها عملاًً، ولا مصدر لأموالها، ووضاعة الذين ينعمون بخيرهم، ويتحينون الفرصة للغدر بهم؛ فرجل الأعمال، الذي جاء إلى المكان بطائرته الخاصة، يُشدد على طفله بأنه يرد بالعربية على من يُحدثه بالعربية، والأب “منصور” (محمود اللوزي) يرد الاعتبار لخادمه “عم شعبان” (إبراهيم فرح) بعد ما اتهمته زوجته “بوسي” (جيهان خليل)، بالسرقة ظلماً، ويُجبرها على الإعتذار منه، واستبقائه، بعد إصراره على مغادرة المنزل، للحفاظ على ماء وجهه، بينما -في المقابل- يتاجر “جو” (هشام الشاذلي) في المخدرات، بشتى أصنافها، رغم امتلاكه ورشة، ولديه ابنة أسماها “ناتشا”، بما يوحي أن أمها أجنبية (غالباً روسية)، ويبيع “فتحي” (على قاسم) جسده، للنسوة المحرومات، بينما تعتمل الكراهية في قلب الأب “عماد” (أشرف مهدي)، الذي عثر بالكاد على وظيفة “سايس”، وبسبب عجزه عن شراء حذاء “رياضي” لابنه، يتراجع عن سرقة أحد الأثرياء، لكنه يسرق حذاء طفل من المسجد، كانت أمه “مريم” (إنجي المقدم) ابتاعته له بثلاثمائة جنيه إسترليني !
الشخصية الوحيدة، في الغالب، التي أفلتت من فخ السطحية، والأحادية، التي اعتمدها الفيلم، هي شخصية “كمال” (إياد نصار)، الذي يمكن القول إنه “عزيز قوم ذل”؛ إذ كان والده صاحب مستشفى خاص كبير، لكن أصابته تقلبات الدهر، ومات، ليترك ابنه، الذي كان مؤهلاً لأن يصبح طبيباً، مُعدماً، وناقماً، على المجتمع، الذي يسيطر عليه أبناء : الوزراء، تجار الحديد وملاك القرى السياحية، فاختار الانتقام من الجميع، مُستخدماً سيارة الإسعاف، التي ورثها عن أبيه (!)، كستار لبيع المخدرات في المنتجع، مُعتمداً على خبرته، وفلسفته؛ إذ أيقن أن العلاقة بين “الناس اللي فوق” و”الناس اللي تحت” تحتاج إلى وسيط، فاختار أن يكون هذا الوسيط، وهو أيضاً صاحب النصيحة، التي تحولت إلى نبوءة، ومفتاح، وقراءة الفيلم (فيه أبواب لازم تفضل مقولة ما حدش ينفع يفتحها)، وعندما صم “فتحي” أذنيه عن النصيحة، وأطلع على أسرار الطبقة المتوحشة، بسوءاتها، فضائح نسائها، ومثلية رجالها، انفتحت أمامه أبواب الجحيم، ودفع الثمن غالياً !
“شيزوفرينيا” المجتمع الحاكم !
طبقة تعاني “شيزوفرينيا” مستعصية؛ أبطالها وبطلاتها : “رانيا” (بسمة)، التي تزوجت “مثلياً”، خانته في لبنان، وعلى استعداد لأن تخونه ثانية في المنتجع، وتتعاطى المخدرات، بحجة أن عائلتها لا تهتم بشئونها، “سوزي” (شيرين رضا)، التي تحولت إلى “قوادة”، تستقطب الشباب في منزلها، لترفه عن صديقاتها؛ بحجة “المساج”، “مريم” (إنجي المقدم)، التي ترفض الامتثال لرغبة زوجها، وترتدي الحجاب، فقد تزوجته لكونه رجل أعمال واسع الثراء، قبل أن يُفجع في وفاة شقيقه، ويذهب لأداء فريضة الحج، ومن بعدها لم يعد كما كان، حسب قولها، “شريف” (أحمد مالك) يهدي المخدرات لأصدقائه، لكنه لا يتعاطاها، كما يزعم، وعلى غرار مقولة “من كان منكم بلا خطيئة”، يهدد ويتوعد كبار طبقته، في حال لم يكفوا عن شقيقته الخائنة التي تزوجت المثلي، ويرد لها اعتبارها على الملأ، بينما “سيرين” (هدى الفقي) تمتنع عن منح جسدها لصديقها، إلى حين تتأكد من حبه لها، رغم أنها ليست عذراء من الأصل، ثم توافق هي و”يارا” (سالي عابد)، على تبادل القبلات، إرضاء للشاب المُخنث “تيمور” (محمد الألفي)، ولأن الفقراء تكئة لتبرير جرائم الأغنياء، وصنع “الميلودراما”، يمتنع “إياد” عن الزواج، خشية أن يتزوج فتاة “يكتشف بعد شهرين او بعد عيلين أنها خائنة”، على حد قوله، لكنه على علاقة مع “نهى” (هاجر الشرنوبي)، شقيقة “فتحي”، ويستخدمها في تجارة المخدرات، من وراء ظهر شقيقها؛ الذي ينبغي عليه أن يصمت على فضائح يِراد منه أن يتستر عليها، وتسعى الطبقة للتكتم عليها، بدعم من الأجهزة الأمنية، و”السايس” يفكر في كتابة مذكراته ليفضح هذه الطبقة المتغولة، لكنه يخشى نفوذها وسطوتها؛ فالمجتمع الأرستقراطي، أو الطبقة الحاكمة، في الوقت الراهن، موبوءة، وفاسدة أخلاقياً، واقتصادياً بالطبع، والخيانات مسلسل لا يتوقف، والمراجعة ضرورة حتمية، كما فعلت “رانيا”، التي رفضت، لأول مرة، اتهام شقيقها بأنه “متخلف عقلياً” أو “رجعياً”، لكونه وقف ضد انحرافات الطبقة، واعترفت :”احنا الي زودناها”، ومع مراجعة “رانيا”، بدا أن الحل في المصالحة، وأن “الدين هو الحل”؛ حيث اجتمع الفرقاء، وأبناء الطبقتين، في المسجد للصلاة، وكأنها النهاية السعيدة، غير أن “حفظي” أبى إلا أن يُسيء للفقراء وحدهم، ويحملهم المسئولية الكاملة عن التناحر، والتنافر؛ إذ انتهى الفيلم بالأب الفقير “عماد” يحقق أمنية ولده في امتلاك حذاء رياضي، ويسرق الحذاء من المسجد، لكن الفارق شاسع، بين مقاس الطفل والحذاء، الذي يتركه على الأرض، ويعود “حافي القدمين”، وكأنها رسالة أخرى، ساذجة”، بأن الفوارق الطبقية ستظل باقية، وأن السرقة من الأغنياء لن تُصلح حال الفقراء !
اجتهادات بغير طائل !
لم أكن أتمنى أن تُسفر نتيجة التجربة الإخراجية الأولى للشاب محمد صقر، إلى هذا المصير المؤلم؛ فقد اجتهد لإظهار امكاناته، وبدا أنه قريباً، ومُلماً، بطبائع، وسلوكيات، وانحرفات، الطبقة، التي يرصدها الفيلم، ووظف كل عناصره الفنية؛ كالتصوير (فيكتور كريدي)، والديكور (عاصم علي)، والملابس (ندى عادل)، في مقاربة الواقع، ومحاكاة كواليس ما تعيشه هذه الطبقة، وإن بدا المونتاج (علي خيري)، بعيداً عن الصورة، في بعض الأحيان، وربما يُسئل عن هذا المؤلف، الذي يتحمل أيضاً مسئولية وجود عدد كبير من الشخصيات، من دون مبرر، (زوجة الأب بوسي، ونهى شقيقة فتحي، وتيمور صديق شريف، وكل العائلات التي ظهرت في البداية)؛ فالصراع يحتدم، حتى على مستوى الحوار، مع ظهور الثنائي إياد نصار وأحمد مالك، اللذان شكلا ثنائياً رائعاً، ورغم المساحة المحدودة نجحت هدى المفتي، في لفت الأنظار، وتأكيد موهبتها، وهو ما لم يتحقق مع ممثلات؛ مثل بسمة وشيرين رضا، بينما احتفظت إنجي المقدم بانفعالاتها لنفسها، ولم تظهرها، بالشكل المطلوب على الشاشة، بعكس سالي عابد، التي كانت جريئة في موافقتها على الدور، وعلي قاسم، الرصين، والوقور، في أدائه، الذي لا تسبقه انفعالاته ومشاعره. وتبقى ملحوظة أخيرة هنا تتعلق بتماثل انفعالات، ووجوه، وأداء، الوجوه الجديدة، لدرجة أنك لا تستطيع التفرقة بين أصحابها، ومن المستحيل أن تحفظ أسماءهم !
استدعاء أحمد فؤاد نجم !
محمد حفظي
عندما قلت إن محمد حفظي، الذي عُرف بتقديم الأفلام الخفيفة، والممتعة، على شاكلة : السلم والثعبان، تيتو، ملاكي الاسكندرية والتوربيني، وتلك التي تدس وجهة نظر ما؛ مثل : فتح عينيك، لم يكن مؤهلاً، بالمرة، للخوض في قضية جادة، وعميقة؛ مثل الصراع الطبقي، لم أكن مُبالغاً أو مُتجنياً، فالتجربة أثبتت، بالفعل، أنه توغل في حقل ألغام، لم يُسلح نفسه قبل الدخول فيه، وأنه عالج الأمر بسطحية، واستخفاف، بينما القضية شديدة الوعورة، والتعقيد، وكانت تحتاج منه الكثير من الدراسة، والبحث، والاطلاع على نتائج الدراسات، التي تناولت الصراع من قبل، وأتصور أنه كان بمقدوره، كأضعف الإيمان، أن يعود إلى قصيدة “يعيش أهل بلدي”، للشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، التي رصدت، بعمق، طبيعة، و”ميكانيزم” الصراع بين الأغنياء والفقراء، وكشفت، بجلاء، عنجهية، تعالي، غطرسة، وأسلوب حياة، هذه الطبقة “البالون” و”الفقاعة”، وكان يستطيع، في حال قراءتها، وأظنه لم يفعل، أن يضع يديه على بذور الصراع، ومواطن، ومظاهر، الخلل، التي شخصها “نجم” في المقدمة بقوله :”يعيش أهل بلدي وبينهم مفيش / تعارف يخلي التعايش يعيش / تعيش كل طايفة من التانية خايفة”، وفِي المقطع، الذي أطلق عليه “التنابلة”، ويقصد الأغنياء، بشكلهم وأسلوبهم، وسماتهم، التي ظهرت في الفيلم بالضبط، وصفهم بدقة، قائلاً :” إذا عزت توصف حياتهم، تقول الحياة عندنا مش كذلك، وممكن تشوفهم ف وسط المدينة إذا مر جنبك اتومبيل سفينة، قفاهم عجينة، كروشهم سمينة، جلودهم بتضوي، دماغهم تخينة، سنانهم مبارد، تفوت في الجليد، مفيش سخن بارد، بياكلوا الحديد”.. لكن “حفظي”، لم يُقدر له أن يقف عند القصيدة، بل تجاهلها ولم تعنه، وهي التي يمكن القول إنها دراسة في حد ذاتها، وكان بمقدوره، على الأقل، أن يتوقف عند المقطع، الذي يقول :” محفلط، مزفلط، كتير الكلام، عديم الممارسة، عدو الزحام، بكام كلمة فاضية، وكام اصطلاح، يفبرك حلول المشاكل قوام” !
مجدي الطيب