فيلم”خمس كاميرات محطمة ” لعماد برناط : حكاية قرية بالعين في فلسطين مع الإحتلال والمقاومة بقلم صلاح هاشم
كانت ليلة عرض فيلم ” خمس كاميرات محطمة- FIVE BROKEN CAMERAS– – فيلم وثائقي طويل – لعماد برناط من فلسطين في باريس، ليلة مشهودة ، ولن أنساها ابدا في حياتي، ومن أروع ليالي مهرجان “سينما الواقع”-CINEMA DU REEL – في دورته 34،فقد أخذ الجمهور يصفق، بعدعرض الفيلم الفلسطيني الفذ، لأكثر من 10 دقائق، بل لقد أعتبر المخرج البريطاني العظيم كين لوش في حوار أجريته معه فوق السحاب، عندما جاء مقعدي في الطائرة الى جوار مقعده، ذات رحلة عودة من مهرجان ” كان ” الى لندن، وجاء ذكر في حديثنا لهذا الفيلم، بعد مرور سنوات على مشاهدته، وفوزه بأرفع الجوائز في مهرجان ” سينما الواقع، إعتبر أنه ” درس ” في السينما العظيمة، والنضال والمقاومة، ضد الإحتلال، ونموذج يحتذى في مايمكن أن تكون عليه سينما المقاومة، وفيلم الحرب.
حكاية قرية بالعين الفلسطينية مع الإحتلال والمقاومة
يحكي فيلم ” خمس كاميرات محطمة ” عن ” مقاومة ” قرية ” بالعين ” في فلسطين المحتلة في الضفة الغربية ، ضد الاحتلال الاسرائيلي، وجيشه المسلط على رقاب الفلسطينيين في كل لحظة وكل وقت. وعن مقاومة أهل القرية لبناء “سور” عازل عن المستوطنات، المقامة على حافة القرية..
وكانت هذه المستوطنات، قد بدأت تتوغل حثيثا، بعدما تضاعف عدد سكانها وتغزو القرية ، بل وتحتل اراضيها بالقوة، وتسرقها عيني عينك، اي على المكشوف بأساليب متعددة،وذلك بمساعدة الجيش الاسرائيلي العنصري المجرم، وتلك القوانيين الاسرائيلية المجحفة الظالمة، المهينة للعدالة ذاتها، ومن تلك اساليب : زرع بيوت متنقلة اسرائيلية في الليل داخل اراضي القرية ومزارعها، ووضع بناء اسمنتي اسرائلي على أية قطعة ارض فلسطينية ، وحرق أشجار الزيتون.واراد برناط أن يحكي عن كل ذلك، عن الظلم والقمع الواقع على رؤؤس العباد، وحياة وبطولات أهالي قرية “بالعين” ،وعنادهم وصمودهم ، وعناد عماد برنات المخرح ذاته، وتصميمه على الاستمرار في التصوير ، بعدما تأكد له في نهاية الفيلم، انه قد يجد في ذلك علاجا شافيا ،وسلوي تقصيه عن ذكرياته الأليمة، ومأساة الاحتلال ..
لكن.. كيف له أن يحكي عن قرية ” بالعين ” الصغيرة، لتكون ” صورة مصغرة ” للعالم الفلسطيني الكبير، وتتحول بنضالها وبطولاتها، الى رمز للثورة والمقاومة، تلك هي المسألة ؟ كما يردد هاملت في مسرحية شكسبير..
ليس طبعا عن طريق الأساليب الحكائية التقليدية التي أهيل عليها التراب، و المباشرة والجعجعة ، والخطب العصماء والصراخ ، كما تعودنا، في جل أفلام “السينما الكفاحية” التي ذهب وقتها وزمنها، وتغير العالم والناس. هكذا فكر عماد برناط ..
اختار عماد برناط، بدلا من عمل فيلم شخصي نرجسي، تصرخ فيه الأنا، وتعلن وتصرح عن بطولاتها، اختار بمساعدة صديق سينمائي اسرائيلي من أنصار حركة السلام في اسرائيل،أن يصنع فيلما ،هو اقرب بواقعيته ومصداقيته، وعناصره الفنية المتميزة وبخاصة مونتاجه، قرب مايكون الى ” قصيدة شعرواقعية ” وتغزّل وتأمّل في الحياة والطفولة، والصداقة والعيد، وكل هذه المشاعر المتناقضة، من فرح وحزن، ثورة وغضب، ويأس وأمل، تلك المشاعر التي تشعل “جذوة الحياة” فينا..
إنه فيلم عن “قوة الحياة” و بقوة الحياة ، ضد الموت واليأس، والفناء والعدم. وعبث حياة الفلسطينيين، والعدم الذي تريده اسرائيل لهم ، هيهات، فحتى عندما تصرخ “ثريا” زوجة عماد الفلسطينية، التي شبت في غربة الفلسطينيين في البرازيل في الفيلم. حتي عندما تصرخ ” ثريا ” ، فيه وهو ينتظر وصول جند اسرائيل لاعتقاله للمرة الثالثة وتقول له كفانا تصوير ياعماد، وفكر في المصير المظلم الذي يننظرني انا واولادك الاربعة، ويتعاطف عماد مع كلامها بالطبع، ويتأسى ايضا لها، لكننا نراه وبعد خروجه من المستشفي في تل ابيب ،وهو لم يبرأ بعد، يخرج باصرار وعناد الى قارعة الطريق، ويذهب مهرولا، لتصوير مسيرات الاحتجاج في ” بالعين” ،حتى لو كانت هذه المرة لتصوير تطبيق حكم المحكمة، في إزالة السور، وكأنه ينسي جراحه بالتصوير، ويداري به، ذنوبه و الآمه وهمه..
في “عين” الكاميرا السحرية
وصحيح، ان فيلم عماد برناط عن المقاومة، وعن مولوده الرابع الصبي ” جبريل ” الذي نراه يكبر ويشب عن الطوق ،وبالتوازي مع تطور أحداث الفيلم،ويجعلنا نخاف عليه ونحبه.. وعن الصداقة التي تربط عماد بصديقيه ” أديب “، الذي يتهيأ للخروج في مسيرة ، فيتجمل كما لو كان متوجها الى عرس..
ثم يحتضن في لقطة من الفيلم شجرة زيتون، ويقول سوف نظل نحن الفلسطينيين متشبثين هكذا بالاشجار، والارض والطين، وحتى نهاية الزمن لا محالة،ولن تستطيع اية قوة ان تنتزعنا عن أرضنا..
وينتهز ” أديب ” الذكي فرصة التصوير، ليمثل أحيانا بشخصه في الفيلم، بل ويبالغ احيانا في التمثيل ،بحضور الكاميرا وهي تصور، حتى يكاد أن يقتل مرة برصاص الجندي الاسرائيلي..
كما يحكي الفيلم كذلك ،عن صديق عماد الـ ” فيل ” ، الذي يطلق عليه اطفال القرية هذا الاسم لضخامته، لكنه يبدو كالرجل الطفل البريء، أو الطفل الرجل في الفيلم ، فهو ” الفيل ” متفائل دوما، ومستبشرابحبه للحياة والناس والبشر، ويروح يصاحب اطفال “بالعين” ،ويعاملهم بعطف وحب ، ويفرح ويضحك ويرقص معهم في الفيلم، كما لو كان ابا او عما لهم، كما يرتبط ” الفيل ” بصداقة عميقة مع جبريل ابن عماد في الفيلم، تجعلنا بسبب لطفه وظرفه وحدبه على جبريل الصغير، وكل أطفال القرية ، تجعلنا نحبه، لأنه يتحمل ، ويجد نفسه مسئولا ايضا عن تربيتهم، بمقام عم أو أب..
ونري كذلك في الفيلم والد عماد، يقفز فوق عربة الجيش الاسرائيلي، ليمنعها من التحرك، بعد ان اعتقلوا إبنه، ويقدم الفيلم هكذا ” شهادة ” حميمية عن القرية وشخصياتها ومسيراتها، شهادة جد قوية وانسانية ومؤثرة، وتنفذ الى القلوب مباشرة، حتى انها تجعلنا نستشعر، أننا في حضرة أهلنا ، ونتحاشي معهم، قنابل الغاز والرصاصات التي تنطلق بسرعة 877 مترا في الثانية، ونخشي على حياتهم..
عن “الكاميرا” وصلة “فن السينما” الوثيقة بحياتنا
لكن.. صحيح ايضا ..أن فيلم ” خمس كاميرات محطمة” كما تمثلناه وهضمناه من زاوية اخرى، هو فيلم عن الكاميرا ، وعن السينما، يحيل الى فيلم ” رجل على الكاميرا ” – UN HOMME A LA CAMERA– للمخرج الروسي العظيم ديجا فيرتوف، فهو يطرح طوال الوقت تساؤلات بشأنها، أعني السينما..
كـ ” فن ضروري”NECESSARY ART -ووثيق الصلة بحياتنا..وربما كان هذا الأمر يفسر سر إعجاب كين لوش بالفيلم، وحتى من عند عنوان الفيلم ” خمس كاميرات محطمة ” فهو يحكي عن الكاميرات – ماكينات التصوير السينمائية -كما لوكانت هذه الكاميرات “كائنات بشرية” مثلنا، ولكل كاميرا كما يتضح ويظهر لنا في الفيلم في ما بعد “، حياتها الخاصة”ـ وإذا بـ ” عماد “، يحكي عنها في الفيلم، كما يحكي عن حياة كل واحد من صبيانه الاربعة، وارتباط حياته، بوقائع واحداث عاشتها فلسطين بالفعل، من عند اتفاقية اوسلو، وحتى الى مابعد الانتفاضة، والهجوم الاسرائيلي على غزة، وبذلك يؤكد عماد من خلال حكيه وتأملاته ، على ارتباط الكاميرا أوالسينما بحركة الواقع والتاريخ، وكـ ” ضرورة ” ، للمحافظة على هويتنا وذاكرتنا، من الفناء والضياع، ويقدم عماد بذلك، “شهادة ميلاد” جديدة للكاميرا الفلسطينية،فهي تتكسر وتتحطم وتموت في الفيلم، لكنها تبعث، وتولد من جديد كالعنقاء، في كل مرة !..
ويذكرنا الفيلم من هذه الزاوية ،ايضا بفيلم روائي لبناني بعنوان ” بيروت الغربية ” لزياد الدويري، فصحيح انه يحكي عن الحرب الاهلية في لبنان، لكنه وبذات المنهج يحكي ايضا عن السينما، ويقدم افكارا وتأملات بشأنها، من خلال تصوير بطل الفيلم الصبي الصغيرلافراد اسرته.لكن هناك فرق، في الحديث عن السينما من خلال الكاميرا، في الفيلمين ..
في فيلم الدويري، تكون الكاميرا فتحة و “ثقب” باب، نتطلع من خلاله،أي أداة استكشاف وإختلاس للنظر والتلصص، في حين تشمخ هذه الكاميرا في فيلم عماد برنات، لتصبح “شخصية” من شخصيات الفيلم، وعاموده الفقري، وفي المركز، والباقي هوالمحيط ..
تصبح كما يقول عماد برناط في الفيل،م وهو يحكي عن كاميرته ، تصبح “أداة ” أو ” سلاح “- (العين الحارسة ؟) – سلاح يحميه من هراوات الشرطة، ورصاص العسكر، والقنابل المسيلة للدموع والدخان، التي تسقط على قرية بالعين، مثل المطر الساقط على رؤؤس البشر، بلا رحمة ولا هوادة، لترويع وقتل أهلها ، وفض مسيراتهم بمشاركة وفود من أنحاء العالم ، وترويعنا نحن ايضا..
هكذا يحكي عنها عماد في فيلمه البديع ، حتى تصبح كذلك ” العين ” التي يري من خلالها ابنه جبريل الصغير العالم، والطبيعة والشجر والسماء و الكون، و تصبح، “الصديق” الوحيد الذي يصر عماد على أن يكون رفيقه الوحيد، اثناء فترة الحجز الاجباري ، التي قضاها بعيدا عن قريته بالعين بعد خروجه من السجن، واذا بالطبيب النفساني الذي حضر للكشف عليه في غرفته ووحدته، يسأله إن ماهي حكايتك مع هذه الكاميرا ، الموضوعة على الطاولة ؟ هل هي تصور وتدور وحدها هكذا على طول، وشغالة لوحدها بإسنمرار يا صاح.. أم ماذا ؟!..
لكنها في فيلم عماد برنات ” خمس كاميرات محطمة ” لاتكرس فقط كـ ” عين ” انسانية، بل تكرس كـ ” عين سحرية ” أي العين الاقوي والاكثر نفاذا وتوغلا في الواقع وحياة البشر ، و “الدواء” الناجح، الذي يطرد عن عماد برنات كابوس الذكريات المقلقة الموحشة، لمأساة الشعب الفلسطيني كله تحت الاحتلال، من خلال نموذج قرية “بالعين” المقاوم، ونضالاته تحت الإحتلال..
تحية الى عماد برنات على فيلمه الرائع، الذي يتسامق بإنسانيته، والذي منحته لجنة تحكيم “المعهد الفرنسي” في دورة مهرجان ” سينما الواقع ” 34 جائزة” لوي ماركوريل” التي تمنح لأفضل فيلم في جميع مسابقات المهرجان، وقيمتها 10000 يورو، وهي أعلى الجوائز قيمة(ماديا وأدبيا) في جوائز المهرجان، وجاء في كلمة أعضاء اللجنة التي أشادت بالفيلم مامعناه: إن إنظروا، هاهو فلاح بسيط من فلسطين، يعطينا بكاميرته درسا في السينما العظيمة،والصمود والمقاومة، والسينما التى تقربنا من إنسانيتنا، بشفافية وحساسية، تذوب لها أعتى القلوب غلظة، وكانت كلمة اللجنة ومن دون مبالغة، أشبه أيضا ماتكون، بـ”قصيدة “.. عن فيلم عماد البديع. وكانت لجنة تحكيم المعهد الفرنسي أول لجنة تعلن عن جوائزها، وكان “خمس كاميرات محطمة” هكذا أول فيلم يعلن عن فوزه، مما أثار ارتياحا كبير لدي الجمهور، الذي احتشد في صالة المهرجان الكبرى، وبمجرد ذكراسم الفيلم في نهاية خطبة الاشادة المذكورة، انطلقت عاصفة من التصفيق، اهتزت لها جدران الصالة بأكملها لفترة،مع نزول عماد من وسط الجمهور لاستلام جائزته.ومن بعدها إنطلق الفيلم، ليعرض في كل مهرجانات الفيلم الوثائقي في العالم، ويعتبرالآن من كلاسيكيات السينما الوثائقية العظيمة، ومن أفضل نماذج السينما الفلسطينية المقاومة في العالم.
بقلم
صلاح هاشم . باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد مصري مقيم في باريس.فرنسا، ومؤسس موقع ” سينما إيزيس الجديدة ” عام 2005 ، الموقع – كما يقال – الأكثر تصفحا وزيارة من بين كافة المواقع السينمائية العربية على شبكة الانترنت
***
عن جريدة ” القاهرة ” الإسبوعية العدد 1223 الصادر بتاريخ الثلاثاء26 ديسمبر 2023