مصر على فين ؟.وطني جميل على الشاشة، لكنه يبحث عن رغيف في الواقع بقلم حسام عبد البصير .في “مختارات سينما إيزيس”
القاهرة.حسام عبد البصير:
سعى هشام مبارك في “الوفد” لعقد مقارنة بين مصر التي في الواقع، وتلك التي نراها في إعلانات التلفزيون فكانت النتيجة مروعة: مصر التي في خاطري لا مكان فيها لهذه الطبقية البغيضة، التي جعلت نصف إعلانات التلفزيون عن تلك الكومباوندات التي انتشرت في طول البلاد وعرضها كالنار في الهشيم، بينما النصف الآخر من الإعلانات يدعونا نحن أيضا للتبرع لمستشفيات الأطفال والكبار الغلابة، الذين ينتظرون يدا حانية تطبطب عليهم، وتداوي أوجاعهم. موازين مختلة تلك التي تطالب ذلك المواطن الغلبان، الذي يشاهد إعلانات القصور واليخوت، وهو يمصمص شفتيه حسرة على شبابه، بأن يمصمصها مرة أخرى على هؤلاء الغلابة الذين يحتاجون للتبرع. يحدث ذلك في الوقت الذي لا حديث فيه في جميع المنتديات الرمضانية وعلى موائد الإفطار، إلا عن الأرقام الفلكية التي تصل إلى ملايين الملايين التي يتقاضاها نجوم الفن، مقابل ظهورهم في أعمال فنية أو إعلانية. تخيل شعورك وأنت الموظف المجاهد والمجتهد بعد أن تكون قضيت عمرك حسن السير والسلوك في وظيفتك، ثم تجد في نهاية خدمتك (هذا إن وجدت أصلا) مبلغا ضئيلا لا يكفي حتى أن يشترى لك ولو قالب طوب في تلك الكومباوندات، التي تطاردنا في الإعلانات ليل نهار. تعديل طفيف في المعادلة، يعني أن أي نسبة ولو ضئيلة من تلك الملايين كفيلة بأن توفر العلاج، ومن قبله الكرامة لهؤلاء الذين يتم ابتزاز مشاعرنا للتبرع لهم. كيف أقتنع بدعوة للتبرع يقوم بها من قبض في مسلسله أربعين وخمسين وستين مليونا.
لو عندهم ضمير
لو كل واحد من هؤلاء الممثلين، بحسب ما يأمل هشام مبارك، تبرع ولو حتى بمليون من تلك الملايين التي قبضها مقابل تمثيله، لما احتجنا لكل هذه الحملات التي تدعو للتبرع لإنقاذ مريض أو توفير مكان في عناية مركزة، أو حتى مجرد سرير في أي مستشفى. بعد أن أصبح وجود سرير خال في أي مكان، يحتاج إلى وساطة تصل لوزيرة الصحة نفسها، وربما لرئيس الحكومة شخصيا. ما يحدث على شاشة التلفزيون كل ليلة في هذا السفه الإعلاني، كان يستوجب تفعيل قانون من أين لك هذا، خاصة لشركات المحمول والاتصالات، التي تخصص ميزانية سنوية تصل لمليارات الجنيهات في كل رمضان، حيث تتنافس كل شركة على استضافة كبار النجوم بملايين فلكية، بينما هذه الشركات نفسها تتنافس علينا كمستهلكين لبضاعتها، وتتفنن في سرقتنا عيني عينك، تحت مرمى ومسمع من الأجهزة من خلال لعبة كروت الشحن، التي تسحب منا باليمين ما نظن أنها تمنحه لنا بالشمال من عروض واهمة تدغدغ مشاعرنا، وتستغل الاستخدام غير الرشيد الذي نستخدمه كلنا إلا من رحم ربي لهذا الاختراع المسمى بالمحمول، الذي لم يكن له وجود في مصر التي في خاطري، بينما الآن يصول ويجول في مصر التي في الإعلانات. مصر التي في خاطري تتسم بالوقار والحشمة، بينما مصر التي في الإعلانات لا تعرف سوى الرقص والعري للترويج عن السلع والخدمات، وحتى الآن لم أجد جوابا شافيا عن علاقة الرقص والأغاني برواج السلعة أو الخدمة. هل هناك أمل في عودة مصر التي في خاطري؟ أم أن المطلوب رفع الراية البيضاء أمام مصر التي في الإعلانات؟
أثرياء ومتسولون
خلال تبنيه ملف التبرعات والعمل الخيري والأهلي، اكتشف أكرم القصاص في “اليوم السابع” مفارقات تظهر خلال شهر رمضان، وتتكرر سنويا، حيث التناقضات بين إعلانات عن كومباوندات شديدة الفخامة، أغلبها تقدم لأقل من واحد في المئة، وإعلانات تطلب التبرع لجمعيات ومشروعات خيرية صحية أو تعليمية غير مكتملة، والأمر يفتقد إلى المنطق، ويشير إلى تفاوت واضح، ومسافة تفصل فئات المجتمع بشكل حاد. هناك علاقة بين مروجي الكومباوند، وسكانه، وطالبي التبرعات. في عالم التسول هناك أمر لافت للنظر، أن المتسولين القادرين على التمثيل أكثر، هم الذين ينجحون في خداع الجمهور، وهم محترفون وغير محتاجين، بينما الفقير فعلا الذي يفتقد ميزات تمثيلية يبقى على فقره، الأمر نفسه يمكن تطبيقه على محترفي جمع التبرعات، ممن يستطيعون الدعاية جيدا، واللعب على عواطف الجمهور، يجمعون الكثير، وغالبا فإن ما يتم جمعه لا يصل منه إلى الفقراء غير نسبة قليلة، والباقي يدخل جيوبا، ويتحول إلى كومباوندات ومزارع وعزب وأطيان، والنتيجة أن مليارات تتجه نية من يتبرعون بها إلى أن توجه للفقراء والمؤسسات الطبية، لكنها تذهب لجيوب المحترفين. هناك بالطبع مؤسسات تجمع الكثير وتنفق الكثير، وهي مؤسسات تحظى بسمعة طيبة، أبرزها مركز مجدي يعقوب للقلب في أسوان وتوابعه، بل إن صندوقا مثل “تحيا مصر” يقوم بالعديد من الخدمات في إعانة الفقراء وإطلاق الغارمات، وتطوير مستشفيات وقرى، أضعاف ما تقدمه جمعيات الدعاية والإعلان، وأغلب الجمعيات ذات الأسماء الرنانة، ليس لأي منها أنشطة ظاهرة، باستثناء إعلانات تملأ السوشيال ميديا، ويصعب التوصل إلى هذه الجمعيات على الأرض، بينما تعجز مؤسسات خدمية، مثل معهد الأورام، أو مستشفى أبوالريش، عن تحصيل تبرعات، على الرغم من أنها تقدم خدمات حقيقية مجانية، أضعاف ما تقدمه مؤسسات الدعاية والإعلان.
كورونا يقاتل
نتحول نحو “الوطن” حيث اهتم الدكتور محمود خليل بدولة البرازيل التي توشك على الدخول في كارثة، نتيجة تفاقم معدلات الإصابة والوفاة بكورونا خلال الأيام الأخيرة. فقد وصل الأمر إلى حد وفاة شخص كل 3 دقائق جراء الإصابة بالفيروس.. سقط آلاف الأطفال هناك صرعى كورونا، وإجمالي عدد المصابين تجاوز الـ13 مليونا. الأصل في ما وصلت إليه البرازيل هو حالة الاستخفاف التي تعاملت بها كل من السلطات والشعب هناك مع الفيروس. لعلك تذكر موقف الرئيس البرازيلي حين استخف بالفيروس، وأكد أنه لا يزيد على إنفلونزا عادية، وأصر في العام الماضي على عدم التوسع في الإجراءات الاحترازية، وذكر أن مثل من يدعوه إلى إغلاق البلاد، كمثل من يدعو مصنع سيارات إلى الإغلاق لمجرد أن إحدى السيارات التي أنتجها تعرضت لحادثة تصادم. وعندما ظهرت لقاحات ضد فيروس كورونا رفض الحصول عليها، ولم يكتف بذلك، بل حذّر كل من ينوي تناول اللقاح من أن يتحول إلى «تمساح». حذا العديد من البرازيليين حذو رئيسهم، في حين حذرت المعارضة هناك من مغبّة ذلك بدون جدوى.. والنتيجة 13 مليون إصابة.. وحالة وفاة كل 3 دقائق. التعامل المستخف بالمخاطر الصغيرة يحولها في الأغلب إلى كوارث كبرى. مجموعة من اللقاحات تتنافس منذ فترة داخل سوق التطعيم، ويزعم منتجو كل لقاح أنه الأجدى في مواجهة الفيروس، في حين أن التجربة تقول إن جدوى اللقاحات في مواجهة كورونا لم تظهر أو تتبلور بشكل يطمئن إلى محاصرته في القريب.
لا تكرروا المأساة
علاج وحيد يراه الدكتور محمود خليل، ثبت أنه الأجدى والأكثر فاعلية في مواجهة فيروس كورونا.. هو محاصرة البؤر التي ظهر فيها، ومنع تسربه إلى غيرها من خلال تقليل الحركة، بالإضافة إلى الالتزام بالإجراءات الاحترازية المتعارف عليها. أثبتت تجربة تعامل البشر مع كورونا، على مدار ما يقرب من عام ونصف العام، أن خير وسيلة للوقاية من الإصابة به هى «الفرار منه».. ومحاولة محاصرته.. كما تفعل دول أوروبا. أخشى أن أقول إن هناك دولاً أخرى تتعامل بالمنطق البرازيلي وتواجه الموجة الثالثة من الفيروس بنوع من الإهمال والاستخفاف، الأمر الذي ظهر مردوده في ارتفاع معدلات الإصابات وأعداد الوفيات بالفيروس. والمتابع لأحوال ومعدلات انتشار فيروس كورونا في مصر، خلال الفترة الأخيرة يلاحظ الزيادة في أرقام الإصابات والوفيات المعلنة عبر وزارة الصحة. الحكومة كالعادة تشتكي من عدم التزام الناس، وتتهمهم بالتخلي عن الإجراءات الاحترازية، وعدم مراعاة شروط التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامة وغير ذلك. شكوى الحكومة من الناس في محلها، لكنها مطالبة بالتحرك السريع واتخاذ إجراءات لمحاصرة الفيروس، حتى لا تتفاقم الأمور. لقد نشر موقع «القاهرة 24» عن سقوط 14 وفاة جراء الإصابة بكورونا في سوهاج قبل أذان مغرب يوم واحد هو يوم الجمعة الماضي، وإذا أضفت إلى ذلك ارتفاع معدلات الإصابة والوفيات كما نلاحظها في العالمين الواقعي والافتراضي، وفي بيانات وزارة الصحة، فعلينا أن نطالب الحكومة بالتحرك السريع واتخاذ إجراءات عاجلة لمحاصرة الفيروس بعيداً عن «المنطق البرازيلي» في المعالجة.
الضحايا يتكلمون
داخل مستشفى بنها الجامعي، الذي استقبل 65 مصابا في حادث قطار بنها، الذي وقع ظهر أمس بين قريتي كفر الحصة وسندنهور في بنها، يرقد عدد من مصابي الحادث الأليم، يروون لحظات الرعب والموت التي شاهدوها بأعينهم، حيث رددوا الشهادتين ظنا منهم أنها النهاية. ففي قسم القلب والصدر، يرقد محمد فاروق محمد 38 عاما، موظف من المنصورة حيث روي أنه اعتاد ركوب القطارات خلال توجهه إلى القاهرة لقضاء مصالحه، وفي هذا اليوم اصطحب زوجته معه وركبا قطار 948 من المنصورة للقاهرة، لإجراء بعض الفحوصات والتحاليل الطبية، وأوضح أنه أقنع زوجته بالركوب، «فجأة حدث هرج ومرج ووقعت بالطرقة، ووقف أحد الركاب على ظهري ولم أدر بنفسي إلا وأنا في المستشفى الجامعي، وفوجئت بزوجتى أمامي على السرير المقابل، وتمسك بذراعها الذي أصيب بكدمات وتدعو الله أن يشفيني». وقال عبدالمنعم الشناوي 37 عاما، من كفر الشيخ، الذى يرقد في إحدى الغرف في قسم القلب والصدر في مستشفى بنها الجامعي، «رددنا الشهادة بعد سماع انفجار وتوقف القطار مرة واحدة»، مضيفا «سمعت أصوات وصرخات بجواري لإنقاذ الركاب وقام آخرون يبحثون عن ذويهم ومن كانوا معهم بالمربع الذي يجلسون عليه في القطار».
سارا معاً كصديقين
في معرض هجومه على الممثل محمد رمضان قال مصطفى عبيد في “الوفد”: مأساة الولد الذي أفلت من مُستنقعات اللاشيء أن موهبته قُدرت، وأن بشرا طيبين مدوا سواعدهم لإظهارها وإمتاع الناس بها، وهو ما لم ينتظره أو يتوقعه فانشرخ وجدانه، وسقطت قيمه. لم أصدق مشهد بعثرته المال، بعد حُكم قضائي بالتعويض حصل عليه طيار مصر للطيران الذي فُصل، لأنه سمح له بدخول كابينة القيادة. تصورت أن الأمر محض مبالغة فيسبوكية، حتى رأيته، فتوجعت وحزنت، وأيقنت أن النجاح قد يدفع إلى الفشل. ما الفن إن لم يُخفف وجعا؟ ما الجمال إن لم يُرقق قلبا؟ ما المتعة إن لم تغرس قيما؟ ما الحياة والنجومية والتحقق إن لم تُمثل جذوة تحفيز وماكينة دعم لأصحاب المواهب والمجتهدين للتطور والتقدم؟ هناك نجوم صعدوا بكفاح، وتألقوا بوهج، وأسعدوا الناس فأسعدهم الناس، لكنهم عند نقطة بعينها انفصلوا عن البشر، فسقطوا من شاهق. لا ألق يدوم، ولا مجد يبقى للأبد، ومَن لا يتعلم من السابقين، يُكرر خطاياهم. كان نجيب محفوظ، أعظم مبدعي مصر، يُدرك ذلك جيدا. لم يكن ساحرا في الحكي وماتعا في الكتابة فقط، وإنما كان فريدا في أخلاقه، تواضعه، بساطته، رُقيه، شعوره بالانتماء للناس، وحرصه على أن يكون منهم لا فوقهم. كُتلة جمال إنساني وسيرة عطرة خالدة تُحكى إلى يوم القيامة. حكى لي أديب كبير أنه كتب قصة قصيرة وهو صغير، ولم يعرف تقييما موضوعيا لها، فنصحه البعض بعرضها على نجيب محفوظ. كيف؟ سأل الرجل، فقيل له إنه يسير كل يوم في الثامنة صباحا ليعبر كوبري قصر النيل في طريقه من البيت إلى جريدة “الأهرام”. بالفعل استيقظ مبكرا، وانتظر الرجل حتى إذا رأه سائرا اقترب منه واستوقفه فوقف، وأعطاه القصة. قال لى الحاكي « توقعت أن يغضب الأديب الكبير على هذا التطفل، أو يرفض ويُعيد لي القصة، أو ينهرني لكنه لم يفعل. ابتسم في رقة وقال له: أشكرك على هذه الثقة. دعني أقرأها وفي الأسبوع المقبل في هذا الوقت سأخبرك برأيي». وفى اليوم الموعود، عاد كاتب القصة إلى كوبري قصر النيل في توقيت مشابه، ووجد نجيب محفوظ يسير في هدوء محتضنا أوراق القصة، وقد كتب عليها بعض الملاحظات. وقف معه، وكرر شكره على ثقته به، وأخبره إن العمل جميل لكنه سيكون أجمل لو فعل كذا وكذا.. وسارا معا كصديقين. ومثل هذا الخُلق هو سر خلود نجيب محفوظ لا نوبل.
عن جريدة ” القدس العربي ” الصادرة في لندن
بتاريخ الاثنين 19 إبريل2021