نهاية أسطورة الإنسان الأعلى بقلم نبيل عبد الفتاح
إستهلال :
في هذا المقال يقدم الكاتب والمفكر المصري نبيل عبد الفتاح قراءة إستقرائية تنويرية ضرورية في الواقع العربي الحالي، وحرب إسرائيل على الفلسطينين تحت القصف والإحتلال في غزة، قراءة تدعو الى الفهم والتأمل والتفكير، ومن ثم الى عمل،
شكرا مفكرنا المصري النبيل
منذ احتلال إسرائيل للأراضى الفلسطينية بعد هزيمة يونيو 1967، وغيرها من الأراضى العربية، لم تكترث الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بأحكام القانون الدولى العام، وقانون الحرب، واتفاقية جنيف الرابعة، والقواعد المنظمة لسلطة المحتل على الأراضى المحتلة، وعلى السكان موضوع الاحتلال، ومارست عمليات استيطان واسعة النطاق، والأخطر مجمل انتهاكاتها إزاء حقوق الشعب الفلسطينى، وأشكال من العقاب الجماعى، واعتقال مجموعات كبيرة من الأسرى، وعمليات عسكرية واسعة النطاق فى الضفة الغربية، وقطاع غزة، وانتهاكات لا حدود لها إزاء حقوق الشعب الفلسطينى، ولكل قرارات الشرعية الدولية، وكافة المبادرات التى استهدفت إيجاد حلول سلمية، وتسويات للنزاع، منذ ما بعد حربى يونيو 1967، وأكتوبر 1973 التى أدت إلى كسر بعض من أساطير القوة الإسرائيلية فى المنطقة.
أدت السياسة الإسرائيلية، ورفضها لحل الدولتين إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، ذات الطابع السلمى، ثم الانتفاضة الثانية عام 2000. أدت الانتفاضة الأولى إلى مؤتمر مدريد عام 1991، وبعدها بعامين إلى اتفاقية أوسلو، وعلى الرغم من السعى العربى، والفلسطينى لتسوية سلمية للنزاع، إلا أن إسرائيل ظلت تماطل في تنفيذ التزاماتها الدولية، وفق القانون الدولى، واتفاقية جينيف الرابعة، وظلت تمارس سياستها الاستيطانية فى الضفة، وحول قطاع غزة فى سعيها لتغيير الواقع على الأراضى المحتلة . ظلت السلطة الفلسطينية ما بعد أوسلو، تسعى إلى تنفيذ ما تم التوصل إليه فى الاتفاق، إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لم تأبه كثيرًا بما وقعت عليه، وتحول واقعيا كسلطة احتلال دون الوصول إلى حل الدولتين، مع كفالة الضمانات الأمنية لها، وللدولة الإسرائيلية. وعلى الرغم من عمليات المقاومة الوطنية المشروعة للمقاومة الفلسطينية –وفق حق المقاومة المشروعة للمحتل الاستيطانى- إلا أن العمليات العسكرية الإسرائيلية تجاه الضفة والقطاع، كانت أوسع نطاقًا، وأكثر تدميرًا للبشر، والحجر فى قطاع غزة، ناهيك عن اغتيالات قادة المقاومة المشروعة، لحركة حماس والجهاد الإسلامى، وتحويل القطاع بعد كل عملية عسكرية كبرى إلى انهار من الدم للسكان المدنيين، وتدمير شامل لمناطق واسعة من القطاع تم تسويتها بالأراض!
اعتمدت إسرائيل على قدراتها العسكرية والتكنولوجية فائقة التطور، وإمكانياتها الأستخباراتية عالية القدرات والكفاءة، وتصورات ذاتية أسطورية حول قدراتها، التى تنطوى على القوة الهائلة لها، مع إدراك ووعى بأنها الأعلى والأكثر ذكاءًا، وقوة من الفلسطينيين والمقاومة. شكلت عملية طوفان الأقصى، ضربة مؤلمة لغطرسة القوة الإسرائيلية وفشلًا امنيًا واستخباراتيًا كبيرا لها، على نحو ما تشير إليه العلميات العسكرية، ومساراتها. كشفت عملية طوفان الاقصى أن الذكاء والخيال العسكرى ليس قاصرًا فقط على التكنولوجيات العسكرية فائقة التطور، والقدرات الأمنية والاستخباراتية ذات الكفاءة، والخبرات العالية، والتمدد فى أوصال الضفة والقطاع، ومناطق واسعة عالميًا، وإقليميا. أثبتت القيادة العسكرية، والعملياتيه الحمساوية عن أن قدراتها، وذكاءها وخيالها العسكرى متميز فى حدود الإمكانيات المتاحة لديها، وفى اختيار توقيت بدء العمليات، وأيضا فى ردع العيون الإسرائيلية والعميلة فى القطاع عن ذى قبل!
إلا أن رد فعل إسرائيل التدميرى واسع النطاق، فى الغارات المكثفة بالطائرات، واغتيال بعض قادة حماس، والعقاب الجماعى، وقتل المدنيين، وهدم المبانى بما شكل عقابا جماعيا للمدنيين، وتهجيرهم القسرى داخل القطاع، بما فيها تفريغ شمال القطاع، وتهجير سكانه قسريا إلى جنوب القطاع، مع منع الغذاء، والماء، والدواء، والكهرباء. سياسة التطهير العرقى للمحتل الاستيطانى الأسرائيلى لا تزال مستمرة منذ 5 يونيو 1967 إلى الآن وتزداد ضراوة، وخطورة. الأخطر أن ما وراء السياسة الإسرائيلية الغاشمة، وخارج الشرعية الدولية أسطورة الاستعلاء الإسرائيلى، وأن الإنسان الإسرائيلى هو الأعلى فى المنطقة، وربما العالم! أن استعلاء الإنسان الأعلى هو أيضا جزء من بعض التصورات الأمريكية، والأوروبية إزاء المجتمعات العربية ، والجنوبية التى كانت خاضعة للكولونياليات الغربية الفرنسية، والبريطانية والإيطالية والبرتغالية، وأن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وسقوط حائط برلين، باتت إمبراطورية العالم الحر، تحت شعارات الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحريات وانسانها الواسبي واليانكيي هو الأعلى كونيا !
أن نظرة على مواقف الإدارة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، إزاء العدوان الأسرائيلي ، وسياسة التطهير العرقى، وقتل المدنيين الأبرياء، واللامبالاة باتفاقية جنيف الرابعة، وعمليات العقاب الجماعى للفلسطينيين، وانهار الدماء للأبرياء، يلخصها تصريحات القادة فى إدارات الدول الغربية، ولعل أكثرها دلالة دعم بايدن لإسرائيل إزاء ما وصفه بالشر المطلق، وقوله “ثمة لحظات فى هذه الحياة، وأعنى ذلك حرفيا، عندما يطلق العنان لشر مطلق على هذا العالم.. هذا العمل شر مطلق” متناسيا كل ما قامت به إسرائيل منذ 5 يونيو 1967 وما تقوم به فى العملية الأخيرة، ودعمه المطلق لها بالأسلحة الاعتراضية والذخائر اللازمة للقبة الحديدية، وإرسال حاملة الطائرات جيرالد فورد الأكثر تطورًا لمنع إيران، وحزب الله من دعم المقاومة الفلسطينية فى القطاع، وفتح جبهات آخرى!
أن مواقف أمريكا، والدول الأوروبية، تشير إلى هذه النظرة الاستعلائية لأسطورة الأنسان الغربى الأعلى إزاء الفلسطينيين، والصمت على جرائم المحتمل الاستيطانى الأسرئيلى، وعدم ذكر أى إشارة للحق فى المقاومة، أو اتفاقية جنيف الرابعة، أو الشرعية الدولية. مرجع ذلك الأساطير الكامنة فيما وراء الليبرالية، وحقوق الإنسان، والخطاب الأمريكى الغربى حولها والنظرة العرقية الاستعلائية إزاء الجنوب، والإنسان العربى. هذا الميراث التاريخى للتفوق العرقى والثقافى، و التقني الغربى، يبدو حاضرا فى المشاهد السياسية الغربية الراهنة، ومعه الأسلاموفوبيا، والنزعات الشعبوبة لدى اليمين المتطرف، واليمين عموما فى أوروبا. ثمة أيضا توظيف للعمليات الإرهابية التى تمت قبل وبعد تدمير إيقونات القوة الأمريكية فى أحداث 11 سبتمبر 2001 فى إذكاء ثقافة الكراهية إزاء الإنسان العربى.
لم تستطع إسرائيل واستعلاءها بالقوة وأسطورة الإنسان الاسرائيلى الأعلى أن تدرك أن الخيال العسكرى للمستضعف والمحتل، يمكن أن يتجاوز أسطورة القوة المطلقة، وأن يعريها، ويكشف عن جوانب وثغرات ضعف داخلها، كما كشفت حماس. لا شك أن أسطورة الإنسان الأعلى، ومواقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية والقيادة الهندية اليمينية المتطرفة والمتغطرسة إزاء المسلمين الهنود، ستؤدى إلى ازدياد ظواهر الاسلاموفوبيا، وثقافة الكراهية، والأخطر احتمالات نشأة، أو نهوض جماعات إرهابية جديدة، تجد فى السياسات الداعمة لإسرائيل مبررًا لعمليات إرهابية جديدة على نحو يهدد هذه المجتمعات، ويجد مبررًا لها لدى قطاعات شعبية واسعة في المنطقة!
أن عمليات القتل والهدم والدماء فى قطاع غزة جعل الموت جزءًا من ثقافة المضطهدين من الكولونيالية الاستيطانية الإسرائيلية على نحو جعل ذلك أمرًا مسيطرًا تحت بصر العالم الأكثر تطورًا، على نحو يؤكد ما قاله انطونيو سكارميتا –فى “التمرد”- يوجد قتيل داخل كل رصاصة.. لم يعد هنا من يهاب الموت. أصبح الموت عادة”. ومع ذلك تغدو المقاومة والموت عادة الى حين إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قواعد وقرارات الشرعية الدولية.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
كاتب وباحث ومفكر تنويري مصري ومستشار مركز الأهرام للأبحاث السياسية والإستراتيجية
***
عن جريدة ” الأهرام” بتاريخ الخميس 19 أكتوبر 2023 لباب ” مختارات سينما إيزيس “