

إستهلال :
منذ يومين ، وبعد رحيل المخرج الجزائري الكبير محمد الأخضر حامينا يوم الجمعة 23 مايو عن عمر يناهز 90 عاما، في ذات اليوم الذي كان مهرجان ” كان ” السينمائي 78، يحتفل فيه بمرور 25 عاما على فوزه بجائزة السعفة الذهبية وعرض فيلمه الملحمي العظيم ” وقائع سنوان الجمر “،في قسم ” كلاسيكيات كان ” وبحضور بعض أفراد أسرته
أعادت الصحافية والسينمائية الجزائرية الصديقة سهيلة باتو نشر المقابلة ” التاريخية ” التالية – التي نشرت في موقع ” الحراك الإخباري ” بتاريخ 25 مايو ، في ما هو أقرب، كما رأينا، الى ” المواجهة ” التاريخية الجريئة، التي تطرح تساؤلات مهمة، ومثيرة للجدل ،على مخرج عربي كبير، ولن يتكرر – على صدر صفحتها في الفيسبوك
وقد أعجبتنا المقابلة ، وهانحن نعيد نشرها هنا، في باب ” مختارات ” في موقع سينما إيزيس الجديدة
صلاح هاشم مصطفى
مؤسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس الجديدة ” العالمي
***
أوه ..لماذا خفت ذلك الوهج ؟
حوار مع المخرج الجزائري الكبير محمد الأخضر حامينا
بقلم
سهيلة باتو
هذه المقابلة تعود إلى زمن البدايات، إلى عام 1999.
كنتُ يومها شابةً، قليلة التجربة، هشّة أمام هيبة ذلك الرجل. كان لقاؤه أشبه بصاعقة صامتة. ترك في داخلي صدى لا يخبو، يتردد في أعماقي حتى بعد خمسة وعشرين عامًا.
أعود اليوم إلى تلك اللحظة، لا لكي أستعيدها، بل لأفهم من خلالها ما يجري الآن. ما الذي يقوله غياب تتويج عربيّ جديد في مهرجان “كان”ماذا تفصح عنه تلك السعفة الوحيدة؟ وماذا تخفيه خلف بريقها؟
كان محمد الأخضر حمينة، بعينين شاردتين في موج المتوسط من شرفة قصر المهرجانات، قد قال لي يومها بكلماتٍ بدت أقرب إلى النبوءة:
“متى فزنا بالسعفة الذهبية؟ سنة 1975… ربما بعد عام أو عامين، سينالها جزائريّ آخر.”
ثم أضاف، بصوتٍ خافت مثقل:
“أجبته: لن يحدث أبدًا. كما يسير العالم العربي، كما تنحرف الأمور…”
وها نحن بعد خمسةٍ وعشرين عامًا، نسمع صداه يتردّد كحقيقةٍ جارحة. في تاريخٍ يقارب الثمانين عامًا، لم تُمنح السعفة الذهبية سوى مرّة واحدة لفيلم عربي. كانت له. ومنذ ذلك اليوم: لا شيء. غيابٌ مدوٍّ، كأنما بُحّ الصوت بعد صرخة واحدة.
لماذا خفت ذلك الوهج إذن، وانطفأ الضوء حول تلك الأصوات؟
ليست المشكلة في الخيال، ولا في الإبداع. فسينما العالم العربي واصلت خلقها: تنوّعت أساليبها، وتجدّدت لغاتها، وتعدّدت أشكالها. بين الواقعية القاسية والحلم الداخلي، بين الصرخة السياسية والقصيدة السينمائية. وثّقت الدمار، ولامست الجراح، وابتكرت جمالياتها الخاصة. فندرة التتويج لا تعبّر عن ضعف فنيّ، بل عن اختلال عميق في نظرة العالم.
1975: استثناء في زمن مشحون
“وقائع سنين الجمر” لم تكن وليدة الصدفة. كانت ملحمة سينمائية كبرى، ترسم تاريخ الجزائر بجراحه وجمره: من انتفاضات الفلاحين إلى قمع الاستعمار، من صوت الشعب إلى الذاكرة الجماعية. كان الفيلم، بصريًّا، لقاءً بين الواقعية الاشتراكية والملحمة الشعرية. لم يكن مجرد عرض، بل خطابًا موجهًا إلى ضمير العالم.
لكنّ ما جعل تلك السعفة ممكنة، كان اللحظة السياسية. ففي عام 1975، كانت الجزائر لا تزال رمزًا للثورات في الجنوب العالمي، تستقبل المثقفين والمناضلين وصنّاع الأفلام. كانت تتحدث باسم من لا صوت لهم، وكانت تصدّق أن السينما قادرة على التغيير. فأن تمنح “كان” السعفة لفيلم جزائري لم يكن مجرّد تكريم فني، بل موقف سياسي، واعتراف بتاريخ يُروى من الجنوب لا من الشمال.
ذلك الاعتراف لم يمرّ بصمت.
“كان”، الواقعة في قلب جنوب فرنسا، بقيت يومها معقلًا لنزعات استعمارية قديمة. وقد فجّر التتويج غضب من تبقّى من أنصار الاستعمار، وتحديدًا من بقايا “الجيش السري”. سرت منشورات تهاجم الفيلم، وحرّفت عنوانه إلى “وقائع سنين من استصلاح أرضٍ فاسدة”. كُتبت عبارات عنصرية على جدران المهرجان، وتلقّى المخرج تهديداتٍ بالقتل، مما اضطر وزارة الداخلية لتوفير الحماية له.
السعفة لم تتوّج فيلمًا فحسب، بل كشفت عن صدعٍ لا يزال مفتوحًا.
كشفت كم أنّ الذاكرة الاستعمارية لم تُهضم بعد، وكم أن سرديات الجنوب حين تخرق صمت الشمال تُواجَه بالرفض والإنكار.
ثم حلّ الصمت
منذ ذلك التتويج، لم يصل فيلم عربيّ آخر إلى ذاك العلوّ. لا لغياب الموهبة: فالأسماء لامعة. يوسف شاهين، إيليا سليمان، نادين لبكي، كوثر بن هنية، مرزاق علواش، وآخرون. أفلامهم جابت المهرجانات، أثّرت، هزّت، أبكت، وأبهرت. لكن السعفة ظلّت بعيدة، كأنها حلم لا يُلامس.
اللا-مرئية الثقافية: حين لا تُطابق الأفلام التوقّعات الغربية
غياب السينما العربية عن منصة التتويج لا يُفسَّر فقط بالسياسة، بل بمأزق أعمق: مأزق التمثيل. فالعالم لا يرى الأفلام العربية إلا من خلال عدسة ضيقة: الإرهاب، الدين، القمع. هذه الصور النمطية تحجب التنوّع، وتعطّل استقبال التجارب الأكثر رهافة، أو تلك التي تنبذ “الاستشراق الذاتي” لصالح صوتٍ داخليّ أصيل.
السينما العربية لا تُغيب فقط عن الجوائز، بل عن الخيال السينمائي العالمي ذاته. لأنها لا تُشبه القوالب الغربية المعتادة لما يسمّى بـ”السينما المؤلّفة” أو “العمل الكوني”. تُقرأ فقط حين تخدم خطابًا إنسانيًا أو قضيةً سياسية، لا حين تجرؤ على أن تكون فنًّا محضًا.
ما تقوله سعفة، وما يُخفيه غيابها ..؟
بقلم
سهيلة باتو
سهيلة باتو صحافية وسينمائية جزائرية مقيمة في باريس.فرنسا