كيف صورت السينما ” الحرب ” في أفلامها.فيلم ” الجلد ” لليليانا كافياني: الحرب طفلة مسلوقة في صحن أنيق بقلم صلاح هاشم
ليليانا كافانى مخرجة ايطالية ،تجد متعة حقيقة،فى صنع افلام، تثير عند عرضها إما موجات من الاستنكار والاستهجان ، وإما مدا واسعا ، من الاعجاب والتقدير.فيلمها ” الجلد ” – THE SKIN – من إنتاج 19812 الذي يحكي عن الحرب، ويعتبر أحد أهم أفلام الحرب في تاريخ السينما، أحدث جدلاً واسعاً،عندما خرج للعرض، فما هى حكاية هذا الفيلم، وما سر الفضيحة،ألتي ألصقت به – من أنه ينشر غسيل إيطاليا الوسخ على الملأ- مثل معظم الأفلام ” الصادمة” التى تخرج علينا، من جعبة هذه المخرجة” الايطالية ” الساحرة ” ليليانا كافاني ، التي كرمت حديثا بمنحها أسد ذهبي ،في مهرجان فينيسيا الفائت..
حكاية ” الجلد ” مأخوذه من كتاب للروائي الايطالى كورزيو مالابارت ،بعنوان ” الجلد “، يروى فيه الوقائع المرعبة ،التى عاصرها بنفسه، عندما دخل مدينة نابولى جنود الحلفاء، لتحريرها عام 1943من قبضة النازي. ونشر الكتاب فى العام 1949 ، ويصف فيه مالابارت ،كيف كانت الامهات والفتيات، يخرجن إلى الطريق، ليمارسن الدعارة ويعرضن اللحم البشرى،كبضاعة ،على الجنود الامريكيين ،من أجل سد البطون الجائعة ، وكسرة من البسكويت ، تبقيهن على قيد الحياة..
ويصل الكتاب الى أوجه،عندما يصف مالابارت مأدبة، أعدها الجنرال قائد القوات الامريكية في نابولى ، يقدم فيها الخدم، فوق صحن مغطى بأوراق الخس الخضراء ، طفلا مسلوقا بعناية ، ومتبلا، على أنه سمكة، إصطيدت خصيصا لهذه المأدبه ، ويعرفها الايطاليون بإسم “عروسة البحر”..
أن مشهد كهذا، لا يمكن بالطبع أن يفوت المخرجة الايطالية، التى اختارت أبشع صور الحرب التى وصفها مالابارت فى كتابه ، ونسجت باتقان فنى سينمائى بارع عبر سلاسة السرد – أى الانتقال بنعومة من لقطة إلى أخرى ، ومن مشهد إلى مشهد آخر، من دون الاخلال بتركيبة العمل الفنى ..
نسجت قصيدة سينمائية كابوسية عن الحرب، كمهزلة تراجيدية، يستبيح فيها الجنود المحررون – ويا للمأساة – حرمة المعابد.ولا تبالغ هنا، عندما نقول المعابد، لأن مالابارت – وليليان كافانى فى فيلمهما –THE SKIN – المأخوذ عن كتابه – يعتبران الجلد الانسانى، بمثابة ” معبد مقدس “، إذا داسته الأقدام، فان ذلك عار على الوطن، والبشر، والضمير الانسانى
وعلى الرغم من أن الفيلم يتناول الحرب، كموضوع أساسي ، فان مشاهد الحرب تغيب تماما عنه، ولا يتأكد وجودها بشكل عام، كخلفية للأحداث، إلا فى لقطة واحدة، يعبر فيها أحد الجنود حقلا ملغوما، ليقضى حاجته ، فاذا باللغم ينفجر، وإذا بأحشائه تخرج فى لقطة مروعة، تلخص عبثية الحرب، عندما يلفظ الأبرياء أنفاسهم الأخيرة ، من أجل حفنة من الكلمات الجوفاء، كالدفاع عن، وعن، بإسم الوطن..
فأى عظمة ، فى أن يموت المرء ، كهذا الجندى الأمريكى الشاب، متأثرا بجراحه ، وقد خرجت أحشاؤه بين يديه، بعيدا عن الوطن، وغريبا فى ذلك الحقل الايطالى، من أجل سمعة الرئيس الأمريكى، الحريص علي الفوز، فى انتخابات الرئاسة المقبلة؟.
لكن الأهم من ذلك كله، أن الحرب ،تحول البشر فى المعسكرين السابقين ، جزارين كانوا أم ضحايا.تحولهم إلى وحوش آدمية كاسرة،ويتضح لنا ذلك فى شخصيات الفيلم الرئيسية، التى رسمتها ليليانان كافانى البارعةبعناية خاصة، ومن ضمنها شخصية الجنرال، قائد القوات الامريكية المحررة – الذى يقوم بدوره فى الفيلم الممثل بيرت لا نكستر ، فهو رجل عصامى ،وأبن نكتة، يقود الجيش الخامس، ويدخل نابولى دخول الفاتحين، وهو يتفجر حيوية، ويعتبر الجيش من ممتلكاته الشخصية.الجنرال في الفيلم رجل يعشق المنافسة، ويرغب فى أن يصبح النجم اللامع الأوحد بين القاده الامريكيين كافة، الذين كلفوا بمهمة ” حربية “، أو بالأحري ” عملية ” حريبة فى أوروبا، وتسيطر عيله فكرة واحده، تعشش فى تلافيف دماغه ، ولا يستطيع منها خلاصا، وهى تتبلور فى رغبته ، فى أن يصل إلى روما لتحريرها بأى ثمن، قبل أن يحرر الجنرالات الأمريكيون الآخرون، أى عاصمة أوروبية أخرى قبله..
وهو يود أن يدخل روما ظافرا، وأن يسلك طريق ” لافيا أبيا ” إليها ، ذلك الطريق الذى سار فيه الغزاه الظافرون من قبل ، من أمثال يوليوس قيصر، ومارك انطونيو..
لكن الجنرال مارك كورك، تثور ثائرته عندما يعلم بوصول ديبور وايت ، ويعتقد أن هذه الشيطانة، قد حلت لتنتزع منه شعبيته، فيوكل إلى مالابارت – ماستروياني في الفيلم – مهمة التخلص منها، في أسرع وقت، وديبورا هي زوجة سناتور أمريكى، قبلت الذهاب إلى جبهة القتال، من أجل الدعاية لزوجها فى الانتخابات الرئاسية المقبلة..
وها هو مالابارت، يعد مأدبة لهذه الارستقراطية المترفعة من بوسطن، فتفتح عينيها على بشاعة الحرب والمجاعة، حين يقدم لها طفلة صغيرة مسلوقة، فوق صحن فاخر من الفضة..
إنها الحرب إذن، التى تحول البشر فى معسكرى الجزارين والضحايا، إلى وحوش كاسرة. فالجنرال الامريكى وحش،لا يهمه الا الوصول إلى روما لتحريرها قبل الآخرين، وديبورا وايت وحش، لا يفكر إلا فى استغلال الحرب الدائرة، من أجل تحقيق مصالح شخصية وضيعة، في زمن المأساة، وبعينين مغمضتين على الأهوال الدائرة من حوله، ومشاهد الرعب، التي تدور لها الرؤؤس..
والمعلم ابن البلد النابوليتانى ادواردوماتزولى،هو أيضا وحش يطعم الأسرى الألمان، كى يبيعهم لحما بالكيلو، للقوات الامريكية المحررة، ويهدد بأن يصنع من شحمهم صابونا، ونابولى تعانى من أزمة الصابون فى زمن الحرب، إذا لم يقبل الجنرال بشروطه، فى صفقة لحم الأسرى البشعة، والجندى الامريكى جيمى وارن وحش، لايتورع عن فض بكارة عذراء نابولى الوحيدة – حبيبته – عندما استيقظ على الحقيقة المدمرة، ألا وهي أن كل نساء وفتيات نابولى الصغيرات يعملن في الدعارة.والجنود الامريكيون فى الفيلم وحوش، حين يقفون فى طوابير طويلة، فى قصر تاريخى عريق ،تحول إلى بيت كبير للدعارة، فى زمن الحرب، ليتفرجوا على عورة فتاة صغيرة عذراء، يعرضها والدها للبيع ، ويطالب الجنود بدولار واحد، فى مقابل امتاع النظر بأعجوبة الأعاجيب ،فى زمن الدماروالقتل..
والجنود الامريكيون وحوش،حين يتحسسون مؤخرات الصغار الطرية ، فى حضرة الامهات اللواتى يساومن على الثمن، والدموع تذرف من عيونهن،ومالابارت فى كل هذا وحش، يتلذذ بمشاهد الرعب الكابوسية، و لا يهمه الا إختلاس النظر، إلى جسد المدينة الممزق.وهكذايتحول الفيلم، إلى صالة عرض، لصور وحوش آدمية كاسرة ، لا تعرف الرحمة، فى زمن الموت والمجاعة..
لكن ليليانان كافانى، على الرغم من ذلك كله، لا تدين شخصيات الفيلم.فالجندى الأميركى الذى يفض بكارة حبيبته على مشهد من الجنود، فى قسوة وعنف بالغين، هو الجندى الذى ينقذ صغيراً فى حقل ملغوم ، بل أن هؤلاء الصغار، الذين اجتمع بهم الجنود الأميركيون، وأغتصبوهم فى الحرب، هم الآن رجال إيطاليا،الذين يصوتون مع الشيوعيين ،أو مع الديمقراطيين المسيحيين، ومن ذا يا ترى يستطيع أن يعيرهم ، بما وقع لهم فى الحرب ؟..
فحين تنتهى الحرب، ويتوقف القتال، سوف تعود الحياة إلى ما كانت عليه، ووقتئذ سيكون للأخلاق والوعظ إعتبار،أما فى زمن الحرب، فلا أخلاق ولا وعظ، ومن الأفضل كما يقول مالا بارت فى الفيلم، أن تعرض الأمهات فى نابولى، لحم فتياتهن على قارعة الطريق للبيع، لأن ذلك سيكون يقينا، أقل قسوة من ذبحهن، وحشو البطون الجائعة ، بلحمهن..
فى المشهد الأخير من الفيلم ، تدهس دبابة أميركية رجلا إيطاليا ، حمل ولده وخرج وهو يلوح بالعلم الأميركى ونجومه ، مرحبا بقوات التحرير الظافرة، حين تتقدم دبابة، في لقطة من أبشع لقطات الفيلم، وأكثرها تعبيراً ودلالة ،عن مغزاه الحقيقى، حين ينجح الأب، فى دفع الصغير جانبا، ليستسلم هو لعجلات الدبابة التى شبكت في قدميه، وعندئذ تتقدم الدبابة،فوق جسده المسجى، وتمرعليه، فيتحول إلى مفرش جيلاتينى – من اللحم والدم – منبسطا فوق الأسفلت، ويده المقطوعة، تمسك بالعلم الأميركى، على قارعة الطريق.عندئذ تصرخ النساء وتولول، ويأمر الجنرال الأميركى قائد الجيش الخامس، بوضع ذلك ” الشئ ” – اللحم الإنسانى – جانبا، حتى تتقدم القوات الظافرة ، على الطريق لتحرير روما..
هذا هو الإنسان ، كما تراه ليليانا كافانى، فى فيلمها الرائع ، مجرد ” شئ ” ، ونفاية من اللحم والجلد،إذا أنتزع منه الحكام والقادة والغزاة كل شئ،، فى غمار مجد الحروب الزائف، تحت شمس إيطاليا الحارقة..
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم مصطفى كاتب وقاص وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة ” القاهرة ” الإسبوعية العدد1215 الصادر بتاريخ الثلاثاء 7 نوفمبر 2023