سينما مصر تمرض لكنها لاتموت ابدا بقلم مجدي الطيب
شاهدنا، مراراً وتكراراً، فيلم «الليلة الأخيرة» (1963)، إخراج كمال الشيخ، الذي تستيقظ فيه «نادية» (فاتن حمامة) من نومها، ذات صباح، لتجد نفسها فاقدة للذاكرة، وأنها زوجة «شاكر» (محمود مرسي)، زوج شقيقتها «فوزية»، الذي يُمارس عليها شتى أشكال القهر النفسي، والجسدي، لتظل تعيش بذاكرة ضائعة.
لكن كم واحد، من بين جميع الذين شاهدوا الفيلم، ربط بين «نادية» و«السينما المصرية»، التي استيقظنا، ذات نهار، لنكتشف أنها فقدت ذاكرتها، وأن بيننا، ومن حولنا ألف «شاكر» مارس عليها، ومازال، شتى أشكال، وصنوف، التنكيل، التعذيب، والقهر، ورغم هذا لم تُجن، أو تلفظ أنفاسها، ومازالت في انتظار تدخل «صديق العائلة»، الدكتور «مجدي» (أحمد مظهر)، الذي تثق به، لينقذها من الخطر الذي يتهددها، ويُعيد إليها ذاكرتها، وعافيتها، وثقتها بنفسها، والأهم ذكرياتها الجميلة، وأمجادها العظيمة، التي أراد «شاكر» أن «يقضي عليها» و«يدفنها»، بعد ما أوهم الجميع أن «غارة ليلية» طالتها !
إسقاط رائع، وخيال مُدهش، تحولت فيه «نادية» إلى رمز للسينما المصرية تارة، وتجسيد للوطن تارة أخرى، وبسلاسة منقطعة النظير، ورؤية غاية في الرصانة، لا مكان فيها لخطابة أو مباشرة، انهمرت علينا مقاطع الأفلام، التي تنوعت، ما بين الاجتماعي، السياسي، الاستعراضي والكوميدي، لتؤكد، وتعكس، زخم تراثنا السينمائي، ووفرة العناصر البشرية والفنية، التي صنعت هذا الزخم، وتقودك، في نهاية العرض، للزهو، والتباهي، بهذا الوطن الذي أنتج هذا التراث الضخم، وأيضاً التباكي على ما جرى لهذا التراث من انتهاك وتبديد بفعل «فاعل» وجد أن فناءه، وتدميره، فيه مواتنا، وانقطاع سلسالنا !
جن وادي عبقر
أي شيطان ذلك الذي ألهم خالد جلال هذه الفكرة ؟
عُرف عن الفيلسوف «سقراط» أنه قال : «أدركت أن الشعراء لا يكتبون الشعر لأنهم حكماء، بل لأن لديهم طبيعة أو همة قادرة على أن تبعث فيهم حماسة» وذهب أفلاطون إلى أن «الكلام الجميل الذي يجري على ألسنة الشعراء ليس من صنعهم، وليس لديهم دخل فيه، وإنما هو إلهام يُلهمونه».وعند العرب كان شعراء العصر الجاهلي يتفاخرون بعبقرياتهم المنسوبة إلى وادي عبقر المحتل من عمالقة الجن، باعتباره مصدر الإلهام. وكان لمعظم الشعراء قرناء من الشياطين تحت مسمى «جنّ الشعر». ومنهم من أفصح عن شيطانه، ومنهم من لم يفعل، ومنهم من لا يعرف أن لديه شيطاناً بينما أرجع الإغريق ظهور الإبداع الأدبي والفني على أيدي نفر قليل من الناس إلى «ربات الإلهام»، وعرفوا «الإلهام» بأنه« فعلٌ بين شخصين أحدهما مُتَخيل وهو الملهِم، والثاني حقيقي وهو المنتج والمُلهَم» أما الشاعر الدكتور عبد العزيز خوجة، وزير الإعلام والثقافة السعودي السابق، فقال في مقابلة أجرتها معه مجلة «العربي» الكويتية، (عدد إبريل 2009) : .«يجب على الفنان أن يكون مستعداً لإبداع ما.. فالإلهام يسبح في الكون. المهم توافر من يلتقطه ويتفاعل معه». وفي رأيي أن هذا كله ينطبق على خالد جلال، الذي يُفاجئنا، بين الحين والآخر، بعرض أخاذ، ينطلق من فكرة براقة، من المؤكد أن وراءها مُلهم؛ سواء أكان «جن من وادي عبقر» أو «ربات الإلهام» أو «مُلهم مُتخيل»؛ ففي جميع الأحوال هناك «مُبدع يقظ اسمه خالد جلال يُدرك أن الإلهام يسبح في الكون، ومن ثم فهو جاهز، ومهيأ، لالتقاطه، والتفاعل معه» .. وهذا، بالضبط، ما فعله مع فكرة عرض «سينما مصر» .
تعيشي يا سينما مصر
قرابة 32 فيلم من أهم أفلام السينما المصرية، اعتمد عليها الموهوب خالد جلال ليستعيد من خلالها ذاكرة السينما المصرية، على الأصعدة كافة، ويُطلق في فضاء الفن كوكبة من الشباب الواعد، أبناء استوديو المواهب بمسرح مركز الابداع الفني بصندوق التنمية الثقافية، التابع لوزارة الثقافة؛ ممن أكدوا، بحق، أن «مصر ولادة»، وأن «سينما مصر تمرض لكنها لا تموت»؛ فالعناوين التي أختيرت تترجم، بجلاء، ما كانت عليه السينما المصرية من قوة، عنفوان، زخم، وتنوع هائل، في أفكارها واتجاهاتها وأشكال مدارسها الفنية، وتنوع أجيالها، والحوارات في المقاطع، التي اختيرت للعرض، تتبنى رسائل على درجة من الأهمية، سواء السياسية منها مثل : «الناصر صلاح الدين»، «القاهرة 30»، «طيور الظلام»، «أغنية على الممر»، «جميلة»، «المصير»، «ناصر 56» و«أيام السادات» (التوازن واضح ومتعمد) أو الاجتماعية؛ مثل : «الزوجة رقم 13»، «لعبة الست»، «صراع في الميناء»، «دعاء الكروان»، «سلامة في خير»، «الزوجة الثانية»، «الآنسة ماما» أو الاستعراضية الغنائية : «غرام في الكرنك»، «حسن ونعيمة»، «فيروز هانم»، «المتوحشة» و«صغيرة على الحب» والحربية : «أغنية على الممر»، والسيرة الذاتية «اسكندرية ليه»، والكوميدية، بكافة صورها وأساليبها ومدارسها مثل : «سكر هانم»، «البحث عن فضيحة»، «صاحب الجلالة»، «إشاعة حب»، «آه من حواء» و«خلي بالك من عقلك» وهو التنوع، الذي ترك أثره على الاسكتشات، التي برعت السينما المصرية في تقديمها، كما في «اسكتش»، جمالات كفتة في فيلم «الآنسة ماما»، و«اسكتش» احنا التلاته سكر نباته، لشادية وشكوكو وإسماعيل ياسين، في فيلم «ليلة العيد»، والفيلمين من إخراج حلمي رفلة . وطوال الوقت لا ينسى «جلال» أن يربط بين هذه الذاكرة التاريخية للسينما المصرية، والذاكرة المفقودة ل «نادية»، حتى ينتهي به المطاف، وبنا العرض، بمشهد المحاكمة، أو المواجهة، حيث تتهم «نادية» الفاعل المعلوم («شاكر» ومن على شاكلته)، بالتآمر عليها، وطمس هويتها، والتكالب عليها بهدف قتلها، لكن الفشل كان حليفهم، لأنها الأقوى، والأكثر تحضراً، وتجذراً، وهي الرسالة التي تحتمل عدة أوجه منها السياسي والفني .. وغيرهما .
عرض وقور ومطلب حيوي
اهتمام عرض «سينما مصر»، بإعادة السينما المصرية إلى مسارها، وعرشها، كقوة لا يُستهان بها، لم يكن مقصوراً على الأفلام، بل كان فرصة ذهبية لتخليد أشهر الموسيقات التصويرية، التي طربت لها الأذان، ومثلما نجح خالد جلال في توظيف الإسقاط، في مشاهد استعادة ذاكرة «نادية»، نجح في الإفلات من الوقوع في فخ التوظيف المجاني لمقاطع الأفلام للسخرية منها أو تناولها بشكل كاريكاتوري لاذع، على غرار ما يحدث في توظيف فن «البارودي»؛ إذ آثر الاحتفاظ للعرض بوقاره، واحترامه، وفي حين توقعت أن تُصبح الحالة الوجدانية للجمهور المتعلق بأغلب مشاهد العرض سبباً في تحفظه حيالها، وربما توتره في استقبالها، أو رفضه لبعضها، كانت المفاجأة أن «الفُرجة» لم تتأثر، على الإطلاق، بل بالعكس كان الاستقبال إيجابياً للغاية؛ بدليل الضحك والتصفيق في مشاهد تصورت أننا حفظناها، وهو ما يبرهن على الحدس الصائب لخالد جلال في اختيار المشاهد، وإن كنا لا نعرف حسب أي معيار اختار مشاهد بعينها دون غيرها، وأرى أن التجربة تحتمل «التحديث اليومي»؛ بمعنى أن تطرأ عليها تغييرات، بالإضافة والحذف، من ليلة إلى أخرى !
على نفس النهج الوقور ظهر أبناء الدفعة الجديدة لاستوديو المواهب، في صورة طيبة، لا مكان فيها لاستنساخ أو تقليد الشخصيات الدرامية، وهي نقطة مهمة كانت محل اعتبار لدى خالد جلال، لذا استمتعنا بأداء ممثلين أجادوا، وأقنعونا، لكنهم لم يشبهوا أحداً؛ مثلما فعل عمر كمال، الذي أحسن المخرج توظيفه، شكلاً وموضوعاً، في مشاهد رشدي أباظة بأفلام : «الزوجة رقم 13»، «صغيرة على الحب» و«آه من حواء» وبلال علي (لوسي في «إشاعة حب») ومحمود الفرماوي، الخليط في شكله وأدائه بين رياض القصبجي وأحمد فتحي، والممثل الأقرب إلى استيفان روستي والممثلة التي جسدت شخصية سعاد حسني في «حسن ونعيمة» والفتاة التي جسدت دور سناء جميل فى «الزوجة التانية»، والشاب الذي تقمص دور محسن محيي الدين في «اسكندرية ليه»، فهم، وغيرهم، احتفظوا بشخصياتهم، ولم يقعوا في فخ التقليد .. وأتصور أن أقل ما يمكن تقديمه كمكافأة لهذه الكوكبة الرائعة، من الشباب الواعد، ممن سيكون لهم مستقبل كبير في المُقبل من الأيام، أن تُبادر إحدى قنواتنا واسعة الانتشار بتصوير العرض قبل أن يغلق أبوابه !
مجدي الطيب
مجدي الطيب كاتب وناقد سينمائي مصري
*
عن جريدة ” القاهرة ” بتاريخ 29 ديسمبر 2020.رئيس التحرير عماد غزالي
باب ” مختارات سينما إيزيس ” .